فروق: أوهام التنمية: لماذا تُفشل الأنظمة خططها عمدًا؟

Friday, May 16, 2025

أوهام التنمية: لماذا تُفشل الأنظمة خططها عمدًا؟

من الرباط إلى مسقط، تتزاحم الشعارات التنموية على واجهات الإعلام الرسمي: "رؤية 2030"، "أفق 2025"، "الاستراتيجية الوطنية للنمو"... لكن خلف هذا الزخم الدعائي، تتكرس وقائع أكثر بؤسًا: بطالة متفشية، تعليم عقيم، إنتاج هشّ، وتفاوت طبقي متصاعد.
الأسئلة الكبرى التي لا يطرحها الإعلام الرسمي هي: لماذا تفشل خطط التنمية رغم التمويل الهائل؟ ولماذا تُعاد صياغتها كل بضع سنوات وكأنها تبدأ من الصفر؟ وهل نحن إزاء فشل غير مقصود... أم أن الفشل ذاته مقصود ومُدار؟


التنمية كواجهة تجميلية: إنجازات للعرض لا للتحول

تبدو خطط التنمية في كثير من الدول العربية مصممة كواجهات علاقات عامة، وليست استراتيجيات تحول حقيقي. تُبنى مدن ذكية فوق تربة تعليمية ميتة، وتُدشَّن مشروعات تكنولوجية في ظل بيروقراطية متحجرة.

خُذ مثال السعودية: "رؤية 2030" تعدُّ واحدة من أضخم محاولات إعادة هيكلة اقتصادية في المنطقة، لكنها تُطرح في سياق سلطوي مغلق، حيث يُقمع الناشطون، وتُختزل المشاركة الشعبية في الترويج الإعلامي. كيف يُبنى اقتصاد منتج في غياب حرية التعبير، ومجتمع مدني فاعل، ونقابات مستقلة؟ لا يُبنى. ما يُبنى هو وهم الإنجاز، لا واقعه.


الفوضى المُدارة: الاقتصاد كأداة سيطرة لا تحرر

الأنظمة السلطوية لا ترى في التنمية وسيلة لتحرير المجتمع، بل أداة لضبطه. وكل مشروع مشوَّه، أو خطة ناقصة، تُفضي إلى فوضى تُوظف لتعزيز السلطة.

لبنان، مثلًا، ليس مجرد ضحية "انهيار مصرفي"، بل نموذج لفوضى مُدارة. الطبقة الحاكمة نهبت البلاد لعقود، وعندما جاء الانفجار المالي، وُظِّف لصالح إعادة إنتاج ذات النخب بآليات جديدة من الزبائنية والمساعدات. الدولة في حالة طوارئ دائمة، لا لحل الأزمة، بل لشرعنة استمرارها.


التنمية الحقيقية تُخيف الأنظمة

لأنها تعني بالضرورة إنتاج مواطن مستقل، ناقد، قادر على الرفض والمساءلة. وهذا يتناقض جوهريًا مع منطق الحكم السلطوي. لذلك، يُجرى إفراغ التعليم من مضمونه النقدي، وتُشوَّه فكرة الريادة الاقتصادية، ويُستبدل المواطن بالتابع، والمبادرة بالولاء، والعدالة بالصدقة.

في الجزائر مثلًا، يُصر النظام منذ عقود على تحييد أي محاولة لبناء اقتصاد منتج مستقل، رغم امتلاك البلاد لثروات ضخمة. لماذا؟ لأن ظهور طبقة وسطى فاعلة سيقلب ميزان السيطرة، ويُحوّل الحاكم من مالكٍ للثروة إلى خادم للصالح العام، وهو ما ترفضه الأنظمة التي ترى في الشعب خطرًا لا شريكًا.


الدولة الريعية: البنية التي تَحول دون التنمية

لفهم هذا النمط من الفشل الممنهج، لا بد من تفكيك بنية الدولة العربية. وهنا تبرز "الدولة الريعية" بوصفها الإطار الذي يجعل الفشل خيارًا سياسيًا لا عارضًا اقتصاديًا.

الدولة الريعية ليست فقط تلك التي تعتمد على النفط، بل كل دولة تُموِّل نفسها من عوائد خارجية — سواء من الغاز أو المساعدات أو القروض — وتُعيد توزيعها عبر شبكات زبائنية بدل الاعتماد على الضرائب والمشاركة الإنتاجية.

في هذا النموذج، لا يعود المواطن شريكًا في القرار، بل متلقيًا للمنة. وهذا يفسر لماذا تفضّل هذه الدول الإنفاق على مشاريع استعراضية بدل الاستثمار في إصلاح التعليم أو تمكين المجتمع. التنمية تُمنَع لأنها تُحرر.


مظاهر الريعية في العالم العربي:

  • في الخليج، تُوزَّع الثروات بشكل عمودي من السلطة إلى المواطنين، مع تغييب ممنهج لأي مساءلة أو مشاركة سياسية.
  • في مصر، يُضخّ المال في العاصمة الإدارية الجديدة وأبراج "مدينة العلمين"، بينما تعاني الأحياء الشعبية من الانهيار. التنمية هنا ليست هدفًا بل واجهة لتكريس النظام.
  • في لبنان، تُدار الفوضى الريعية بطريقة طائفية: المنفعة مقابل الولاء، لا الكفاءة.
  • في الجزائر، تُستخدم مداخيل النفط كوسيلة لشراء السلم الاجتماعي، لا كرافعة للتقدم.


التنمية المشروطة: رفاهٌ بلا حرية

حتى حين تتحقق بعض مظاهر الرفاه، فإنها تُقدَّم مشروطة: لا رفاه بلا خضوع. في النموذج الخليجي مثلًا، تُوفَّر للمواطن مزايا حياتية، لكن يُمنَع من المشاركة السياسية أو حتى تشكيل رأي عام مستقل.

وهكذا تتحول التنمية من هدف إنساني إلى أداة إخضاع ناعمة. المواطن يُعطى شقة أو وظيفة، لكنه يُجرد من صوته، من فكره، من حقه في الفعل الجماعي.


الخاتمة: التنمية أو الاستبداد... لا يجتمعان

التنمية ليست بناءً عمرانيًا، ولا مضاعفةً في الناتج المحلي. إنها مشروع تحرر شامل، يبدأ من الاعتراف بالمواطن شريكًا لا تابعًا. وكل نظام يخاف هذا التحوّل، لا يمكنه أن يُنتج إلا تنمية زائفة تُبهر الخارج وتُبقي الداخل مقموعًا.

ما يُقدَّم اليوم في كثير من الدول العربية ليس تنمية بل إطالة لعمر السلطة. والخروج من هذا النمط لن يكون عبر خطط جديدة، بل عبر هدم معمار الريع، وإعادة بناء الدولة من القاعدة: من الإنسان الحر، المنتج، المشارك.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .