
في زمنٍ خيّم عليه الاستعمار ورضي فيه كثيرون بالواقع المفروض، نهض عبد الكريم الخطابي من جبال الريف المغربي ليكسر المعادلة. لم يكن زعيم قبيلة فحسب، بل قائد ثورة تحررية استثنائية هزّت عروش الاستعمار الإسباني والفرنسي، وأعادت تعريف مفهوم السيادة. أسس أول جمهورية عربية في شمال إفريقيا، متحديًا التحالفات الدولية وقوى الغزو مجتمعة. رفض الخطابي أن يكون الاستقلال منحة، فجعله ثمرة كفاح منظم وفكر تحرري عميق. ورغم النفي والتآمر، ظل اسمه شاهدًا على أن المقاومة ليست فوضى، بل مشروعًا حضاريًا له رجاله.
قد تُهزم المعركة إذا خانها الجار، وقد يُغتال القائد حين يُربك الكبار.
لكن الفكرة لا تُهزم إن وُلدت من طين الأرض ودم الشرفاء. لم يكن رجل حرب فقط، بل رجل مشروع قاوم بكرامة، وعرّى الاستعمار، وكشف زيف أنظمة عربية ادّعت الوطنية وهي تُراسل المحتل سرًا.
من الريف خرج الصوت الذي أزعج العواصم
ولد في قبائل الريف المغربي، وتعلّم في المساجد، ثم درس في إسبانيا،
لكنه حين عاد لم يركن لوظيفته القضائية،
بل رأى أن العدل لا يُحَقّ بالقوانين وحدها، بل بردّ العدوان عن أرضٍ تُستباح.
وحين بدأ الاحتلال الإسباني يتوسع، وحّـد القبائل، وصاغ مشروع مقاومة يدمج الدين بالحكمة، والبندقية بالتنظيم.
لم يكن يصرخ في الهواء، بل يبني جيشًا ويُدرّب مقاتلين ويخطط كما يخطط الضباط في أكاديميات أوروبا.
معركة أنوال: حين انكسرت الهيبة الأوروبية
عام 1921، فاجأ الخطابي العالم بمعركة لم تكن متوقعة: أنوال.
هُزم فيها الجيش الإسباني شر هزيمة، وسقط أكثر من 13 ألف جندي، وفرّ الباقون في الجبال.
صُدمت إسبانيا، واهتزّت فرنسا، وارتبك الإنجليز.
لقد أثبت الأمير أن الاستعمار ليس قدرًا، بل ضعفٌ مقنّع بقوة الإعلام والبطش.
وأن الجبال التي تحرسها العزائم، لا تسقط أمام المدافع.
عندما توحّد الأعداء وخانه الإخوة
انتصاراته أرعبت الجميع، فقررت فرنسا أن تتدخل…
ولأول مرة، يتحالف جيشان أوروبيان ضد مقاومة شعبية واحدة.
بل استعانوا بالطائرات لأول مرة في التاريخ، وقصفوا بغازات سامة،
في حرب إبادة شاركت فيها شركات أوروبية كبرى.
لكن الأخطر لم يكن الطيران، بل خيانة الأنظمة العربية المجاورة، التي سدت الطرق ومنعت الإمداد، خوفًا من أن يمتد الحريق إليهم.
الأمير الذي هُزِم جسدًا، وانتصر فكرة
بعد أن ضاق عليه الحصار، سلّم نفسه تجنّبًا لسفك دماء شعبه.
فنُفي إلى جزيرة نائية، ثم إلى مصر لاحقًا،
لكن روحه لم تُنفَ، بل تحوّلت إلى مصدر إلهام لكل حركات التحرر من الجزائر إلى فلسطين.
كان يرى أن الجهاد ليس فقط بالسلاح، بل بأن تُربي شعبًا لا يركع.
وكان يقول:
"لو وُجد في العالم عشرة من أمثالنا، لما بقيت فرنسا في بلادنا يومًا واحدًا."
لماذا لا يُدرَّس الخطابي في مناهجنا؟
لأنه يُحرجهم…
يُحرج أنظمة تُصالح المحتل وتخون المقاوم.
يُحرج أحزابًا تدّعي السيادة وهي تكتب تقاريرها في سفارات الغرب.
يُحرج تاريخًا رسميًا يريدنا أن ننسى، وأن نُبقي أبطالنا في الظلّ،
لئلا نسأل: لماذا لم نعد مثلهم؟