الشعوب العربية وصحوة سايكس بيكو

منذ ما يزيد عن قرن، وخرائط سايكس بيكو لا تزال تحكمنا بحدودها المصطنعة، وأنظمتها المستنسخة، وعقيدتها التي جعلت من "الوطن" قُطراً محاطاً بالأسلاك لا فكرةً جامعة. لكننا اليوم نشهد يقظة عربية جديدة، تتجاوز هذا التفتيت لا بالجغرافيا فقط، بل بالإدراك. فمع كل أزمة تضرب دولة عربية، يُكشَف المستور عن وحدة الجراح وتشابه الآلام، ويبدأ وعيٌ عربي بالتشكل خارج أطر الإعلام الرسمي، وأيديولوجيا الاستعمار القديم الجديد.

الحدود لم تعد تفصل الوعي

رغم أن الحدود لا تزال قائمة في الخرائط، إلا أن الأزمات المشتركة—من فلسطين إلى السودان، ومن العراق إلى اليمن—كشفت أن مصير الشعوب العربية واحد، وأن الانفصال السياسي لا يعني انفصالاً شعورياً. شبكات التواصل الاجتماعي، والمنابر الحرة، جعلت من كل كارثة محلية أزمةً قومية، يتفاعل معها الشباب العربي وكأنها في عقر داره، وكأنهم جميعاً في خندقٍ واحد.

سايكس بيكو كمنظومة لا كخريطة

من الخطأ أن نتصور اتفاقية سايكس بيكو مجرد تقسيمٍ جغرافي. إن جوهر هذه الاتفاقية هو في ترسيخ ثقافة التجزئة، وبناء أنظمة سياسية تدير التفكك لا الوحدة. ولذلك، فإن صحوة ما بعد سايكس بيكو لا تبدأ بتعديل الحدود، بل بتفكيك العقلية التي رسّخت أن مصلحة الدولة لا تكتمل إلا بخذلان جارتها، وأن الوطنية تعني الولاء للحدود لا للحق.

الجيل الجديد خارج القفص

الجيل العربي الجديد، الذي وُلد بعد الفضائيات ونضج في زمن الإنترنت، بات قادراً على تجاوز المحظورات التي رُسّخت لعقود. لم تعد فلسطين "قضية الفلسطينيين"، ولا العراق "صراعاً داخلياً". باتت الحدود مجرد إطار رسمي لا يمتلك حق احتكار الشعور، ولا تستطيع الأنظمة تطويقه بالرقابة كما كان يحدث سابقاً.

إعلام ما بعد التجزئة

من أبرز مظاهر هذه الصحوة، الإعلام الشعبي والمستقل، الذي فكك خطاب الدول المصطنعة وأعاد تشكيل هوية جامعة. هذا الإعلام—رغم ما يواجهه من تضييق—بات يطرح الأسئلة التي كانت ممنوعة: من الذي قرر أن لبنان لا علاقة له بسوريا؟ أو أن مصر ليست معنية بليبيا؟ أو أن الخليج جزيرة معزولة عن المشرق؟

ما بعد سايكس بيكو: صراع السرديات

نحن لا نعيش فقط في مرحلة ما بعد سايكس بيكو كخريطة، بل نعيش صراعاً بين سرديتين:

  • سردية سايكس بيكو التي تروّج للوطن الممزق، وللدولة المستوردة، وللعدو المصنّع.
  • وسردية الصحوة العربية التي تسعى إلى تجاوز الأوطان الورقية نحو هوية جامعة لا تلغي الخصوصية بل توحّد المصير.

الوعي كميدان للتحرر

التحرر اليوم لا يبدأ بالثورة على الأنظمة فقط، بل بثورة على المفاهيم: أن نعيد تعريف الوطن، والمصلحة، والهوية، والانتماء. أن نفهم أن النكبات ليست متفرقة، بل فصول من مسرحية واحدة كُتبت بحبر سايكس بيكو، وتُعرض بأدواتنا نحن.
إن الخروج من هذه المسرحية لا يعني إسقاط الستار فقط، بل تمزيق النصّ وإعادة كتابته بوعي جديد، وبلغة تنتمي إلى هذه الأمة لا إلى مخابرات من مزّقوها.

أحدث أقدم