
لقد أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نشر قوات المارينز في شوارع لوس أنجلوس دون موافقة حكومة الولاية، في خطوة غير مسبوقة منذ ستينيات القرن العشرين. ومع ذلك، فإن هذه ليست استجابة طارئة لأزمة عابرة، بل مشهد محسوب في سياق إعادة هندسة الداخل الأمريكي.
الفوضى المقصودة: حين يُفتح الباب للفوضى لتبرير النظام الحديدي
حين تتكرر مشاهد الفوضى في مدن محسوبة على التيار الديمقراطي الليبرالي، ويُسمح لها بالتصاعد دون ردع مبكر، فإن السؤال لا يكون فقط “ما الذي حدث؟”، بل: “لماذا سُمح له بأن يحدث؟”.
إن السماح للفوضى بأن تتضخم، ثم تقديم الحل الوحيد لها على هيئة قوة عسكرية اتحادية تتجاوز سلطة الولاية، يخلق حالة ذهنية جديدة لدى الجمهور: الخوف من الحرية، والحنين إلى قبضة الحديد.
بهذا المعنى، تتحول الفوضى من كونها خللًا عرضيًا إلى مسرح وظيفي، يُستخدم لتبرير فرض نموذج سياسي جديد، عنوانه: “لا حماية دون مركزية شاملة”، ولو على حساب الفيدرالية والدستور.
ترامب لا يسعى للانتخابات… بل لتجاوز حدود اللعبة كلها
من السهل التساؤل: ولماذا يحتاج ترامب لإثارة هذا المشهد الآن، وهو في فترته الرئاسية الثانية والأخيرة؟
لكن هذا التساؤل ينطلق من فرضية أن ترامب ملتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية، في حين أن شواهد المشهد تقول العكس تمامًا.
ما يسعى إليه ترامب ليس مجرد “فرصة انتخابية” لشخصه، بل فرصة تأسيسية لمشروع سلطوي تتجاوز آلياته حدود الدستور الأمريكي نفسه. في هذا السياق، تأخذ الفوضى دورًا وظيفيًا يسمح له بتعبئة القواعد المحافظة خلفه، وتسويق نفسه كـ”صاحب الحل الوحيد” في لحظة انهيار.
هذه ليست لحظة انتخاب… بل لحظة إعادة تأسيس.
عندما تصبح الديمقراطية أداة لإلغاء ذاتها
إن مشروع ترامب السياسي، الذي يعتمد على عسكرة الداخل ومركزة القرار، لا يمكن فرضه تحت قواعد اللعبة القائمة. لكنه يستطيع أن ينمو من داخلها، تمامًا كما صعدت النازيات من داخل البرلمان الألماني، وكما عُلّق الدستور الروماني باسم إنقاذ الجمهورية.
حين يُقدَّم “الاستثناء” كخيار ضروري لإنقاذ الأمة، يبدأ الناس بتبرير ما لم يكن ممكنًا تصوره قبل سنوات:
- عسكرة الشارع
- تجاوز سلطة الولايات
- تعليق بعض الحقوق
الفوضى كاستثمار استراتيجي… لا كأزمة أمنية
في عالم تضطرب فيه مفاهيم السيادة، وتنهار فيه ثقة الشعوب بالمؤسسات، تُصبح الفوضى فرصة لا أزمة. فرصة لإعادة تعريف “العدو الداخلي”، و”من هو المواطن”، و”من يملك القرار في لحظة الخطر”.
والأخطر: أن هذه الفوضى ليست فقط نتيجة تصدع اجتماعي، بل قد تكون أيضًا محركًا وظيفيًا لإعادة إنتاج السلطة.
خاتمة: ما بعد أمريكا كما عرفناها
ليست هذه الاحتجاجات ولا هذه المواجهات بين ترامب وولاة الولايات سوى مقدمة لتحوّل أعمق: الانتقال من أمريكا “الديمقراطية الموزعة” إلى أمريكا “الأمن القومي المتمركز”.
إنها لحظة لا تُفهم من خلال ملاحقة الأحداث اليومية، بل من خلال قراءة الخطاب الذي يروّج لها، والسرديات التي تُستخدم لتبريرها، والنماذج التاريخية التي تشبهها.
في النهاية، الفوضى ليست دائمًا نقيض النظام.
أحيانًا، تكون خطته الأولى.