
الاقتصاد العالمي بين المطرقة والسندان
حين يُرفع إنتاج النفط عالميًا، تنخفض الأسعار بفعل فائض المعروض، مما يعود بالفائدة على الدول المستوردة الكبرى (مثل الهند، الصين، والاتحاد الأوروبي)، ويُرهق في المقابل اقتصادات الدول المصدرة، التي تعتمد موازناتها على أسعار مرتفعة.
لكن حين يُخفض الإنتاج، ترتفع الأسعار، مما يدفع الدول المستوردة إلى كبح النمو، ويرفع معدلات التضخم عالميًا، بينما تستفيد الدول المنتجة من الفائض المالي مؤقتًا. هذه اللعبة المعقدة تجعل أي قرار من أوبك أو الولايات المتحدة أو روسيا، لا يُقاس فقط بالدولارات، بل بالمواقف السياسية والمعادلات الجيوسياسية.
لماذا ترفع دول الخليج الإنتاج رغم تضررها من انخفاض الأسعار؟
قد يبدو رفع إنتاج النفط الخليجي ضد مصلحتهم المباشرة، إذ يؤدي إلى انخفاض الأسعار العالمية وبالتالي تقليص عوائدهم المالية. لكن القرار الخليجي لا يُفهم إلا عند وضعه ضمن ميزان المصالح الأشمل:
1. الضغوط الأمريكية
أمريكا، بوصفها شريكًا أمنيًا استراتيجيًا للخليج، تمارس ضغطًا مستمرًا على دول أوبك+ (وخاصة السعودية) لزيادة الإنتاج عندما تحتاج لضرب الاقتصاد الروسي أو تخفيف أسعار الطاقة عالميًا. في مقابل هذه الاستجابة، تحصل دول الخليج على:
- دعم عسكري واستخباراتي
- صفقات سلاح وتكنولوجيا
- حماية أمنية ضمنية من التهديد الإيراني والتركي والحوثي
2. ضبط التوازن في السوق
في بعض اللحظات، تخشى دول الخليج أن تؤدي الأسعار المرتفعة إلى تحفيز الولايات المتحدة لزيادة إنتاج النفط الصخري، مما يهدد بحصصهم السوقية على المدى الطويل. لذلك، قد تلجأ إلى رفع محدود للإنتاج بهدف:
- كبح الاندفاع الأمريكي
- الحفاظ على حصة السوق
- منع تآكل الثقة في منظمة أوبك
3. اللعب على الحبلين: روسيا وأمريكا
بعض القرارات الخليجية تبدو متناقضة لأنها تسعى لتحقيق توازن دقيق: عدم خسارة الشراكة مع أمريكا، دون استفزاز روسيا بشدة. رفع الإنتاج قد يُستخدم كورقة تفاوضية مؤقتة، لا كتحوّل استراتيجي دائم.
من المتضرر الأكبر من انخفاض الأسعار؟ روسيا تحت المجهر
روسيا، بخلاف دول الخليج، تخضع لعقوبات اقتصادية شديدة منذ غزو أوكرانيا، وتبيع نفطها بخصم كبير (ما يُعرف بخصم أورال). لذلك:
- انخفاض السعر العالمي يُضاعف خسائرها
- يُضعف الروبل ويؤثر على الإنفاق العسكري
- يُقلّص قدرتها على دعم حلفائها دوليًا
هذا ما يجعل أمريكا تضغط لرفع الإنتاج حين تريد خنق موسكو دون اللجوء إلى السلاح.
كيف تستفيد أمريكا من هذه المعادلة؟
- كأكبر منتج عالمي، تستطيع أمريكا رفع إنتاجها من النفط الصخري بسرعة.
- انخفاض الأسعار يُرهق خصومها (روسيا، إيران، فنزويلا) دون ضرر كبير عليها.
- الأسعار المنخفضة تخفف التضخم الداخلي الأمريكي وتزيد شعبية الإدارات الحاكمة.
لكن على الجانب الآخر، أسعار النفط المنخفضة تؤذي بعض الولايات الأمريكية المنتجة، وهو ما يُجبر واشنطن أحيانًا على الموازنة بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد المحلي.
خلاصة: من يتحكم في النفط يتحكم في السياسة
النفط لم يعد سلعة. بل صار رسالة دبلوماسية وأداة حرب. ترفع الخليج الإنتاج فتخسر جزءًا من العائد المالي، لكنها تكسب توازنًا سياسيًا واستراتيجيًا. وتضغط أمريكا في الخفاء لتحريك السوق خدمة لأهدافها الدولية. فيما تنزف روسيا كلما هبط السعر، لأن ميزان حربها ليس في ميدان المعركة فقط، بل في أسواق النفط والبنوك والعملة.