نهاية البترودولار: حين يُباع النفط بلا إذن من الدولار

في زحام التحولات الجيوسياسية، تمرّ بعض اللحظات الفاصلة في تاريخ الاقتصاد العالمي دون أن تُقرع لها الأجراس. لحظة كهذه تلوح في الأفق اليوم، وهي احتمال فك ارتباط النفط بالدولار. هذا الارتباط الذي شكّل أحد أعمدة الهيمنة الأمريكية لعقود، والذي يُعرف اختصارًا باسم "نظام البترودولار".

لكن ماذا لو كُسر هذا القيد؟ وماذا يعني فعليًا أن يُباع النفط بغير الدولار؟

ما هو البترودولار؟ ولماذا هو مهم؟

بعد حرب أكتوبر 1973، وفي ظل صعود أسعار النفط وتراجع قيمة الدولار، عقدت الولايات المتحدة اتفاقًا تاريخيًا مع السعودية (ثم لاحقًا مع دول أوبك) يقضي بأن يتم بيع النفط حصريًا بالدولار الأمريكي، مقابل ضمانات أمنية وعسكرية أمريكية.
وهكذا، أصبحت كل دولة تحتاج إلى استيراد النفط مضطرة أولًا إلى شراء الدولار، مما خلق طلبًا دائمًا عليه، وجعل من الدولار عملة الاحتياط العالمية.

هذا النظام مكّن الولايات المتحدة من:

  • تمويل عجزها دون إنتاج فعلي (عبر طباعة الدولار)
  • التحكم بالنظام المالي العالمي (عبر المؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي)
  • استخدام الدولار كسلاح للعقوبات (مثلما تفعل ضد روسيا وإيران وفنزويلا)

ماذا يعني فك هذا الارتباط؟

أن تبدأ الدول المنتجة للنفط، مثل السعودية أو روسيا أو إيران أو غيرها، ببيع النفط بعملات أخرى مثل:

  • اليوان الصيني
  • اليورو
  • الروبل
  • الذهب
  • أو حتى عملات رقمية سيادية

بمعنى أوضح: أن يُباع النفط دون الحاجة إلى "إذن الدولار".

ما الآثار المحتملة على الاقتصاد العالمي؟

1. انهيار نسبي في قيمة الدولار

  • الطلب العالمي على الدولار سيتراجع بقوة.
  • البنوك المركزية ستبدأ بالتخلص من احتياطاتها الدولارية تدريجيًا.
  • الدولار سيفقد جزءًا كبيرًا من مكانته كعملة احتياط.

2. تضخم داخلي في أمريكا

  • طباعة الدولار دون غطاء ستفقد فاعليتها.
  • تكلفة الاستيراد سترتفع.
  • مستوى المعيشة في أمريكا سيتضرر، لأن الامتياز النقدي سينهار.

3. اهتزاز النظام المالي العالمي

  • أسواق الأسهم والسندات والبنوك مرتبطة بالدولار.
  • تغيّر جذري في موازين الثقة والاستثمار.
  • نظام SWIFT سيفقد أهميته كمحتكر للتحويلات الدولية.

4. صعود قوى بديلة

  • الصين قد تستفيد بقوة إذا تم اعتماد اليوان في تسعير الطاقة.
  • روسيا ستلتف على العقوبات الأمريكية بسهولة أكبر.
  • دول الجنوب العالمي ستستفيد من تعددية نقدية تقلل تبعيتها للغرب.

من يقاوم هذا التحول؟ ولماذا لم يحدث بعد؟

رغم أن فك ارتباط النفط بالدولار هو هدف مشترك لعدة قوى كبرى، إلا أن النظام العالمي ما زال هشًا أمام تغييره لأسباب عديدة:

  • هيمنة الدولار البنيوية: أكثر من 60٪ من الاحتياطات العالمية بالدولار.
  • الردع العسكري الأمريكي: التدخل العسكري أو الفوضى "تُستخدم" أحيانًا لمعاقبة من يفكر بالخروج من النظام.
  • ضعف البدائل: اليوان غير حر، الذهب غير مرن، العملات الرقمية لم تنضج.
  • الخوف من ردود الفعل الأمريكية: دول الخليج مثل السعودية تعتمد أمنيًا على المظلة الأمريكية.

لكن المشهد يتغير بسرعة:

  • الصين عقدت أول صفقة نفط باليوان مؤخرًا مع دول خليجية.
  • روسيا تُجبر بعض عملائها على الدفع بالروبل.
  • السعودية لم تعلن تجديد التزامها العلني بالبترودولار منذ 2022.

تحليل استراتيجي: هل هذه نهاية إمبراطورية الدولار؟

ليس فورًا، ولكن:

  • النظام الحالي يتآكل من الداخل.
  • تعددية الأقطاب السياسية تُترجم تدريجيًا إلى تعددية نقدية.
  • اللحظة التي يُباع فيها النفط بكثافة بغير الدولار ستكون لحظة انهيار رمزي للهيمنة الأمريكية.

النفط، الذي كان لعقود يُستخدم لتعزيز الدولار، قد يتحوّل إلى سلاحٍ ضده.

خلاصة نقدية:

لم يكن ربط النفط بالدولار مجرد قرار اقتصادي، بل صفقة سلطوية شاملة، ضمنت من خلالها أمريكا تمويل إمبراطوريتها بلا تكلفة حقيقية.
لكن الزمن تغيّر. والفكرة التي بدت مستحيلة – بيع النفط بلا دولار – بدأت تتحقق على الأرض.
وإذا استمرت، فإن القرن 21 قد يشهد سقوط البترودولار بوصفه العمود الأخير في معبد الإمبراطورية الأمريكية.

*
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال