
1. الهيمنة على الأرض: المشروع الصهيوني بين السيطرة والرفض
منذ بزوغ فكرة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، كان الهدف المركزي هو إقامة دولة قومية يهودية في فلسطين، تهيمن بشكل حصري على الأرض التاريخية التي اعتبرتها "الوطن القومي".
السيطرة على الأرض لم تكن خيارًا بل ضرورة استراتيجية لا يمكن التنازل عنها. كان هذا الهاجس واضحًا في استراتيجيات تأسيس المؤسسات الاستيطانية، وعمليات الاستيلاء على الأراضي، وفي النزاعات المسلحة المتواصلة التي مهدت لإعلان دولة إسرائيل عام 1948.
أي تنازل عن الأراضي، وخصوصًا في الضفة الغربية، يُعتبر تهديدًا مباشرًا لهوية المشروع الصهيوني، لأنه يفتح الباب أمام وجود فلسطيني مستقل، مما يضعف الميزة الجغرافية والسياسية لإسرائيل.
2. الديموغرافيا: العائق الأكبر أمام حل الدولتين
أحد الأسباب الجذرية التي تجعل إسرائيل ترفض حل الدولتين هو الخوف الديموغرافي. فالفلسطينيون يشكلون نسبة مهمة من السكان داخل إسرائيل وخارجها، ومع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، تنشأ مخاوف من:
- توسع حقوق الفلسطينيين، داخل الخط الأخضر وفي الأراضي المحتلة، مما قد يهدد "الطابع اليهودي" للدولة.
- زيادة الضغط السياسي والمجتمعي لحقوق المساواة و"حق العودة"، الذي يخيف إسرائيل لأنه قد يعيد تشكيل التركيبة السكانية بطريقة تهدد أولوية اليهود.
هذه المخاوف الديموغرافية هي جوهرية لأنها تمس جوهر تعريف الدولة نفسها، وتحول أي حل سياسي إلى معركة وجودية وليس فقط اتفاقًا حدوديًا.
3. البعد الأمني: الحلقة المفرغة للصراع
المخاوف الأمنية الإسرائيلية ليست مجرد رد فعل على هجمات أو تهديدات مؤقتة، بل جزء من استراتيجية للحفاظ على الهيمنة والسيطرة على الأرض.
فإسرائيل ترى أن:
- إقامة دولة فلسطينية مستقلة يمكن أن تتحول إلى منصة للمقاومة المسلحة والدعم اللوجستي لجماعات معادية.
- هناك خطر من تمدد نفوذ قوى إقليمية معادية مثل إيران وحزب الله عبر الأراضي الفلسطينية.
- انعدام السيطرة المباشرة على الأراضي يجعل إسرائيل عرضة لهجمات غير تقليدية وتهديدات أمنية دائمة، ما يعني دوامة من العنف لا نهاية لها.
هذه الحسابات الأمنية تجعل أي تنازل عن الأرض محفوفًا بمخاطر استراتيجية يعجز عنها صناع القرار.
4. النشأة التاريخية لمخاوف إسرائيل: من النكبة إلى واقع الاحتلال
تعود جذور هذه المخاوف إلى تجربة النكبة عام 1948، التي كانت لحظة تأسيسية مؤلمة للفلسطينيين ومحطة مفصلية لإسرائيل.
- النكبة عرّفت الصراع على أنه صراع وجودي، إذ أدت إلى نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين واحتلال مساحات شاسعة.
- إسرائيل بعد النكبة تبنت سياسات صارمة لتثبيت وجودها، منها قانون العودة الذي أعطى لليهود حق العودة بلا حدود، مقابل حرمان الفلسطينيين من العودة.
- هذه السياسات عززت خوف إسرائيل من التغيير الديموغرافي ومن إعادة تعريف الهوية الوطنية.
على مدى عقود، تراكمت هذه المخاوف لتؤسس لسياسات الاحتلال والاستيطان التي تستهدف منع قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل وفرض واقع دائم من الهيمنة العسكرية والسياسية.
5. تأثير المخاوف على السياسة الإسرائيلية المعاصرة
في السياسة الإسرائيلية الراهنة، تتجلى هذه المخاوف في عدة اتجاهات واضحة:
- التوسع الاستيطاني المستمر: حيث تصر إسرائيل على بناء المستوطنات في الضفة الغربية، ليس فقط كاستراتيجية أمنية، بل كوقائع تغير واقع الأرض، وتجعل من إقامة دولة فلسطينية حقيقية أمراً شبه مستحيل.
- استغلال الانقسام الفلسطيني: الانقسام بين فتح وحماس يُستخدم كذريعة إسرائيلية لتأجيل أو رفض المفاوضات، مدعية عدم وجود شريك فلسطيني موحد، رغم أن هذا الانقسام هو في جزء منه نتيجة سياسات الاحتلال.
- الخطاب السياسي المضلل: إسرائيل تروج لمخاوفها كقضايا أمنية تكتيكية يمكن حلها عبر المفاوضات، بينما الواقع أن هذه مخاوف وجودية عميقة لا تقبل التنازل.
الخلاصة: رفض حل الدولتين كرفض لوجود الدولة اليهودية الكاملة
رفض إسرائيل لحل الدولتين ليس مجرد خيار سياسي، بل هو تعبير عن خوف استراتيجي من فقدان مشروع الدولة اليهودية ككيان قومي متحكم في الأرض والديموغرافيا والأمن.
هذا الرفض يعزز الجمود السياسي ويطيل أمد الصراع، ويجعل السلام العادل حُلمًا بعيد المنال، لا سيما مع استمرار التوسع الاستيطاني والتشدد السياسي.