هل نشهد فعلاً تعددية قطبية جديدة؟

قراءة في التحول الجيوسياسي والتكنولوجي خارج المركز الغربي :

في خضم التحولات العالمية المتسارعة، تكثر التصريحات حول ولادة "نظام عالمي متعدد الأقطاب"، يخرج عن قبضة الهيمنة الأميركية والغربية التقليدية. لكن ما طبيعة هذه التعددية؟ وهل نحن بصدد توازن جديد فعليّ أم مجرد ضجيج نظري؟ وهل تشمل التعددية فقط الجغرافيا السياسية، أم أنها تمتد لتشمل التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي أيضًا؟ هذا المقال يُفكّك الخطاب المتفائل، ويبحث في جذور التحوّل وحدوده.

تعددية قطبية أم تفكك قطب؟

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، كان النظام العالمي يوصف بأنه "أحادي القطب" بقيادة واشنطن. غير أن هذا القطب لم يكن كيانًا مستقرًا، بل كان في ذاته يمرّ بتحوّلات داخلية تمثّلت في انتقال السيطرة من الدولة إلى الشركات، ومن المؤسسات القومية إلى الشبكات العابرة للحدود.

اليوم، تُطرح التعددية القطبية كمشروع مضاد، تقوده قوى مثل الصين وروسيا وإيران، عبر تحالفات جديدة (كـ"بريكس+"، و"منظمة شنغهاي"، والتقنيات البديلة للدولار). غير أن السؤال الجوهري ليس عن عدد الأقطاب، بل عن قدرتها على صناعة منظومة بديلة حقيقية.

التكنولوجيا: الجبهة الخفية للتعددية

تدرك القوى الصاعدة أن التفوق العسكري والاقتصادي وحده لا يكفي لإعادة تشكيل النظام العالمي، ما لم يُدعّم بتفوق تكنولوجي. ولذا نشهد:

  • محاولات فصل الإنترنت العالمي: الصين بنت "جدارها الناري العظيم" وتسعى عبر مشاريع مثل "شبكة سيادية" إلى إنشاء فضاء معلوماتي موازٍ.
  • نمو شبكات الدفع البديلة: مثل نظام CIPS الصيني مقابل SWIFT الغربي، والتحول نحو التسويات الثنائية بالعملات المحلية (اليوان، الروبل...).
  • سباق الذكاء الاصطناعي والرقمنة: حيث بدأت الصين والهند وروسيا تطوير نماذج ذكاء اصطناعي خاصة، بعيدًا عن الهيمنة الأميركية في هذا المجال.

لكن هذه المبادرات ما زالت غير مكتملة، وتعاني من فجوات كبيرة في التكامل والتشغيل المشترك. التكنولوجيا الحديثة لا تنمو في الفراغ، بل تتطلب بيئة مؤسساتية، وثقافة قانونية، وتراكمًا معرفيًا.

المال والهيمنة: هل يمكن تجاوز الدولار؟

يشكل الدولار حجر الزاوية في النظام العالمي، لا لقيمته النقدية فحسب، بل بسبب السيطرة الغربية على البنية التحتية المالية: من شبكة SWIFT إلى مؤسسات التصنيف العالمية. لذا فإن محاولات تجاوزه تمثل التحدي الأكبر أمام التعددية.

الصين وروسيا تسعيان فعلاً للفكاك المالي، لكن:

  • التجارة العالمية ما زالت تُسعّر بالدولار بنسبة تفوق 80٪.
  • الأصول العالمية الكبرى (الذهب، النفط، التكنولوجيا) تُقوَّم بالدولار.
  • العملات المنافسة تعاني من نقص السيولة وضعف الثقة الدولية.

بالتالي، فإن تجاوز الدولار ليس مسألة قرار سيادي، بل يحتاج إلى عقود من إعادة بناء الثقة والهياكل الاقتصادية العالمية.

التعددية الحقيقية: هل هي مطلب أم وهم؟

ثمة إشكالية بنيوية في مفهوم "تعدد الأقطاب":
فالتعدد لا يعني مجرد وجود أكثر من لاعب، بل وجود توازن بين قوى قادرة على إنتاج أنظمة مستقلة، وليست تابعة أو مقلّدة. في هذا السياق:

  • الصين رغم صعودها، لا تزال تعتمد على الأسواق الغربية كمنافذ استهلاكية.
  • روسيا تفتقر إلى القاعدة التكنولوجية والاقتصادية الكافية للريادة.
  • إيران وكوريا الشمالية تمتلكان خطابات مضادة، لكنهما معزولتان عن الاقتصاد العالمي.

ما يعني أن التعددية – حتى الآن – هي خطاب مقاومة أكثر منها واقع بديل.

خاتمة:

رغم الضجيج السياسي والإعلامي حول ولادة عالم متعدد الأقطاب، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا. فالعالم لا ينتقل ببساطة من هيمنة إلى توازن، بل من نمط سيطرة مركزي إلى شبكة من النفوذ المتداخل، تتحكم فيها التكنولوجيا، والمال، والسرديات.
وإن لم تستطع القوى الصاعدة إنتاج منظومات مستقلة معرفيًا وقيميًا وتكنولوجيًا، فسيظل ما يُسمى بالتعددية القطبية مجرد تنويع في الشكل، لا في الجوهر.

*
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال