
سريفيجايا، التي حكمت من سومطرة الوسطى، لم تكن مجرد مملكة، بل كانت منظومة بحرية تهيمن على طرق الملاحة بين الهند والصين، وتُشرف على مضيق ملقا الذي سيصبح لاحقًا عصب الاقتصاد الآسيوي.
لكن خلف هذه السيطرة الجغرافية، كانت هناك رؤية دينية عميقة، ونظام سياسي مرن، وحياة اجتماعية غنية تُخفي ما لم تُسجله النقوش الملكية.
1. النشأة والظروف التأسيسية
ظهرت سريفيجايا في منتصف القرن السابع الميلادي، ويُرجح أن تاريخ قيامها يعود إلى حوالي عام 650م.
نشأت في منطقة باليمبانغ في جزيرة سومطرة، مستفيدة من موقعها الجغرافي عند تقاطع أهم طرق التجارة البحرية بين الهند والصين.
كانت سومطرة آنذاك مزيجًا من القرى الساحلية والموانئ الصغيرة، مما سهّل على سريفيجايا أن تتوسع تدريجيًا عبر السيطرة على الموانئ بدلاً من الحقول.
2. البنية السياسية والإدارية
لم تكن سريفيجايا دولة مركزية صارمة، بل أقرب إلى كونفدرالية موانئ متحالفة.
كان الملك يُلقب بـ"مهاراجا"، ويُنظر إليه كحامٍ للدين البوذي، وحاكم يحظى بولاء التجار والوجهاء المحليين أكثر مما يفرض سيطرة عسكرية مباشرة.
اعتمدت الإمبراطورية على نظام الولاء التجاري: تُمنح الموانئ امتيازات مقابل الاعتراف بالسيادة، لا الخضوع المباشر.
3. الحياة الاقتصادية والتجارية
كانت سريفيجايا أعظم قوة تجارية في جنوب شرق آسيا في عصرها.
هيمنت على تجارة البهارات، وخشب الصندل، والعاج، والراتنج، والمعادن، وربطت بين الأسواق الصينية والهندية والعربية.
سيطرت على مضيق ملقا، وحوّلت الموانئ إلى محطات عبور لا يُمكن تجنبها، حتى أن السفن القادمة من الصين كانت تتوقف شهورًا فيه للتزود والإذن بالإبحار.
كما أقامت سريفيجايا علاقات دبلوماسية وتجارية رسمية مع الصين والخلافة العباسية والهند، ووصلت شهرتها حتى بلاط سلالة تانغ الصينية.
4. الدين والثقافة الرسمية
كانت سريفيجايا مركزًا عالميًا للبوذية، وتحديدًا البوذية المهايانية.
أسست أديرة، ورعت بعثات رهبانية، وجذبت طلاب العلم من آسيا كلها، ومن أشهرهم الراهب الصيني يي جينغ الذي أقام بها قرابة عامين (671–695م)، ووصفها بأنها مركز تعليم وتأمل فريد.
لم تكن البوذية مجرد عقيدة دينية بل كانت أداة هيمنة ثقافية، استخدمتها النخبة لربط السلطة بالحكمة، والملك بالقداسة.
5. الحياة الاجتماعية والثقافية لعامة الشعب
عاش عامة الناس على الزراعة البسيطة، وصيد الأسماك، والحرف اليدوية المرتبطة بالتجارة البحرية.
المجتمع كان طبقيًا نسبيًا، حيث تحظى النخبة التجارية والدينية بمكانة عليا، بينما يُمارس عامة السكان العمل الإنتاجي والخدمي.
من المرجح أن المرأة كانت تحظى بدور في التجارة المنزلية، والطقوس الدينية الشعبية، خاصة مع انتشار الرموز الأنثوية في الفنون المحلية.
الدين الشعبي كان مزيجًا من البوذية الرسمية والمعتقدات الأرواحية والموروثات الهندوسية، مما خلق تنوعًا مذهبيًا غنيًا لكنه غير متجانس تمامًا.
6. العلاقات الخارجية والصراعات
خلال ذروة قوتها بين القرنين السابع والحادي عشر، كانت سريفيجايا تتوسط شبكة معقدة من القوى الإقليمية المجاورة، أبرزها:
- الصين (سلالة تانغ ثم سونغ): علاقة دبلوماسية وتجارية وثيقة، حيث كانت سريفيجايا ترسل بعثات منتظمة وتحظى باعتراف إمبراطوري رسمي.
- الهند (سلالة بالا ثم تشولا): تبادلات ثقافية وتجارية ودينية قوية، تحوّلت لاحقًا إلى صراع مباشر مع أسرة تشولا.
- مملكة ماتارام في جاوة (732–1006م): الجار المنافس على النفوذ البحري، والصراع غير المباشر بين الجزر.
- ممالك الملايو الشمالية (مثل كدي وتمبرا لينغا): حلفاء أحيانًا، ومتنافسون على حركة التجارة الإقليمية.
في عام 1025م، شنّ الملك راجندرا تشولا الأول من جنوب الهند غزوًا بحريًا ضخمًا على سريفيجايا، ألحق بها أضرارًا كبيرة وهدد هيمنتها، لكنه لم يُسقطها آنذاك.
لكن هذه الضربة كشفت هشاشة النظام البحري لسريفيجايا أمام الهجمات المنظمة. ومع الوقت، بدأت قوى جاوية جديدة مثل سينغاساري ثم ماجاباهيت تسيطر على المنطقة.
7. الانحدار والسقوط
منذ القرن الحادي عشر، بدأت سريفيجايا تفقد سيطرتها تدريجيًا، نتيجة عوامل متعددة:
- تحوّل طرق التجارة.
- تصاعد النفوذ الجاوي.
- ضعف بنيتها السياسية المركزية.
وفي عام 1377م، سقطت باليمبانغ في يد ماجاباهيت، وانتهى عهد سريفيجايا رسميًا، رغم بقاء بعض المراكز التجارية تحت حكم محلي ضعيف.
8. الأثر التاريخي والاستمرارية
رغم اختفائها، تركت سريفيجايا إرثًا ثقافيًا وتجاريًا طويل الأمد:
- أرست النموذج الأول للإمبراطوريات البحرية في الأرخبيل.
- مهدت لتحول المنطقة إلى الإسلام لاحقًا.
- أثرت في البناء السياسي والثقافي للممالك التالية، خاصة في سومطرة وشبه جزيرة الملايو.
- وربما الأهم: أنها علمت التاريخ أن البحر، لا البرّ، هو الذي يصنع العواصم في هذا الجزء من آسيا.
خاتمة تحليلية
قد لا تحتفظ الذاكرة المعاصرة باسم "سريفيجايا" كما تحتفظ بأسماء السلاطين المسلمين، لكنها كانت أول من برهن أن البحر هو من يصنع الممالك في هذا الجزء من العالم.
وحين سقطت، لم يسقط البحر، بل فقط تغيرت الرايات، واستبدلت المعابد بالمآذن، وبقي المضيق قلبًا نابضًا لأرخبيل لا يُفهَم إلا من على ظهر سفينة.