/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

ماتارام الهندوسية (732–1006م): الممالك الجاوية الأولى وبداية صعود جاوة

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك: 

في عمق جزيرة جاوة، حيث الطبيعة البركانية الخلابة والسهول الخصبة، تأسست واحدة من أقدم الممالك الهندوسية في جنوب شرق آسيا: ماتارام.
على خلاف سريفيجايا البحرية، مثّلت ماتارام نمطًا سلطويًا زراعيًا، يعتمد على الداخل أكثر من الخارج، ويجعل من المعابد رمزًا للسلطة الإلهية على الأرض.
امتدت هذه المملكة من القرن الثامن حتى مطلع القرن الحادي عشر، وشهدت ازدهارًا حضاريًا كبيرًا تُوّج ببناء معابد ضخمة مثل بوروبودور وبرامبانان، لكنها انتهت فجأةً بسبب زلزال سياسي لا يقل عن الزلازل البركانية التي تهزّ جاوة.

1. النشأة والظروف التأسيسية

تأسست مملكة ماتارام نحو عام 732م، على يد الملك سانجايا، الذي يُعتبر الأب المؤسس للأسرة الحاكمة الأولى.
نشأت في المنطقة الوسطى من جزيرة جاوة، بين نهري بروغو وبويو، وهي منطقة خصبة وتحتل موقعًا استراتيجيًا بين الجبال البركانية والممرات الداخلية.
تشير النقوش الحجرية إلى أن سانجايا كان هندوسيًا من أتباع الشيفية، وأقام سلطة محلية قوية تحكم من الداخل، بخلاف نموذج السيطرة الساحلية في سريفيجايا.

2. البنية السياسية والإدارية

كانت ماتارام مملكة مركزية أكثر من سريفيجايا، إذ اعتمد الملوك على تحصيل الضرائب من المزارعين، وتنظيم نظام ري معقّد عبر السدود والقنوات.
مارس الملك سلطة مطلقة، مدعومة بشرعية دينية هندوسية أو بوذية (لاحقًا)، مع وجود نخب بيروقراطية ومعابد ضخمة تُستخدم كمراكز دينية وإدارية.
كانت العائلة المالكة تُؤسس شرعيتها على علاقتها بالآلهة، وتُنسب أصولها غالبًا إلى "الآلهة الهندية"، خاصة شيفا وفشنو.

3. الحياة الاقتصادية والتجارية

اقتصاد ماتارام كان زراعيًا بالدرجة الأولى، قائمًا على زراعة الأرز باستخدام أنظمة ري متطورة.
كانت التجارة الخارجية محدودة نسبيًا في المراحل الأولى، لكنها ازدادت مع تزايد الاتصال بالممالك الهندية والصينية.
شهدت المملكة طبقة حرفية نشطة، خصوصًا في أعمال الحفر والنحت المعماري، ما يشير إلى وجود فائض اقتصادي مكّن من بناء المعابد الكبرى.

4. الدين والثقافة الرسمية

عاشت ماتارام بين الهندوسية والبوذية.
بدأت المملكة على يد أسرة هندوسية شيفية، ثم حكمتها لاحقًا أسرة بوذية تُنسب للملك سمرانغ.
وكانت فترة القرنين 8–9م ذروة الازدهار الديني، حيث بُني معبد بوروبودور البوذي (نحو 825م) أحد أعظم المعابد البوذية في العالم، تلاه معبد برامبانان الهندوسي، ما يُشير إلى فترات تناوب وتسامح بين المعتقدين.
المعابد لم تكن فقط أماكن عبادة، بل أدوات سياسية تُظهر قوة الدولة، وتُخلّد ملوكها كأنصاف آلهة.

5. الحياة الاجتماعية والثقافية لعامة الشعب

كان المجتمع الجاوي هرميًا، تتربع على قمته النخبة الملكية والدينية، ويليه الكهنة والموظفون، ثم الفلاحون والحرفيون.
عاش عامة الشعب في قرى زراعية صغيرة، يعتمدون على الأرز وتربية الماشية والصيد.
كانت الفنون الشعبية مزدهرة: النحت الخشبي، الرقص الجاوي، ونقل القصص الملحمية الهندية مثل الرامايانا والمهابهاراتا بلغات محلية.
كما لعبت المرأة دورًا مهمًا في الاقتصاد المنزلي والطقوس المحلية.

6. العلاقات الخارجية والصراعات

في مقابل سريفيجايا البحرية، كانت ماتارام تمثل القطب الزراعي الداخلي.
علاقاتها مع القوى الخارجية شملت:

  • الهند: عبر تبادل الرهبان والمخطوطات والمؤثرات المعمارية.
  • الصين: بعض السفن الصينية وصلت إلى جاوة، وإن كانت العلاقات أقل كثافة مما كانت عليه مع سريفيجايا.
  • سريفيجايا: كانت الخصم الإقليمي الأهم، وتنازعتا غير مرة على السيطرة على مضيق ملقا.

ورغم أن ماتارام لم تملك أسطولًا ضخمًا، فإنها سعت لبناء نفوذ ساحلي أواخر عهدها، ما قادها لمواجهة مباشرة مع سريفيجايا.

لكن في عام 1006م، تعرضت المملكة لهجوم كبير من قوة خارجية – على الأرجح سريفيجايا – ما أدى إلى انهيارها ونقل مركز الحكم إلى شرق جاوة، حيث بدأت تظهر قوة جديدة: كينديري ثم سينغاساري.

7. الانحدار والسقوط

عوامل سقوط ماتارام تعددت:

  • صراعات داخلية بين الأسر الحاكمة (الهندوسية والبوذية).
  • نشاط بركاني مدمّر غيّر من معالم المنطقة (ربما بركان ميرابي).
  • التهديد العسكري من سريفيجايا، والذي ربما دعم انقلابًا داخليًا أو قاد غزوًا مباشرًا.

بحلول عام 1016–1006م، انتهت مملكة ماتارام عمليًا، وبدأت مرحلة انتقالية إلى شرق جاوة.

8. الأثر التاريخي والاستمرارية

لم تمت ماتارام بالكامل، بل تحوّلت لاحقًا إلى نمط جاوي جديد في شرق الجزيرة.
أثرها لا يزال قائمًا في الثقافة الجاوية، وفي المعابد العظيمة التي خلفتها، وفي شكل السلطة الدينية التي رسختها بين النخبة.
كما أن فكرة "الملك الإلهي" التي نشأت في ماتارام ستستمر لاحقًا في ماجاباهيت وسلطنة ديماك.

خاتمة تحليلية

مثّلت ماتارام الهندوسية الوجه الزراعي الداخلي لحضارة الأرخبيل، مقابل سريفيجايا البحرية.
وبين المعابد والشعوب، بين الأرز والمضيق، كانت جاوة تتهيأ لزمن جديد، سيكون له شأن أعظم في تاريخ المنطقة بأكملها.


وصف الصورة:

مشهد واقعي لمعابد بوروبودور أو برامبانان في جاوة، وسط طبيعة خضراء وجبال بركانية في الخلفية، مع قرى زراعية تقليدية تظهر حولها، وزخارف حجرية هندوسية وبوذية تدل على العصور القديمة.

أحدث أقدم