/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

كنديري وسينغاساري (1045–1292م): صعود الشرق الجاوي وبدايات التوسع الإقليمي

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك: 

بعد سقوط مملكة ماتارام في وسط جاوة، انتقلت بوصلة السلطة نحو الشرق، حيث ظهرت مملكتان جديدتان حملتا الإرث الهندوسي والبوذي، ولكن بروح أكثر حركية وطموحًا إقليميًا:

كنديري أولًا، ثم سينغاساري لاحقًا، وقد مهدتا الطريق للإمبراطورية التي ستوحّد الأرخبيل لاحقًا: ماجاباهيت.
تميزت هذه المرحلة بالحروب الداخلية، والتوسع البحري، وتداخل الدين بالسياسة، ومحاولة بناء مركز جاوي يقارع سريفيجايا في سواحل سومطرة وملقا.

1. النشأة والظروف التأسيسية

تأسست كنديري نحو عام 1045م على يد الملك إيرلانغا، وهو أحد أحفاد أسرة ماتارام، الذي وحد مناطق شرق جاوة بعد اضطرابات سياسية وانقسامات داخلية.
عاش إيرلانغا حياة صاخبة، لكنه اختار في نهايتها التقاعد والتفرغ للدين، وقسّم مملكته بين ولديه، مما أدى لاحقًا إلى ضعفها.
ومن رماد كنديري، ظهرت في عام 1222م مملكة سينغاساري، أسسها القائد العسكري كين أروك بعد انقلاب ناجح، مدشنًا عهدًا جديدًا من التوسع والطموح الإمبراطوري.

2. البنية السياسية والإدارية

في كنديري، كانت السلطة مركزية بيد الملك، لكن البيروقراطية بدأت تتخذ طابعًا أكثر تنظيمًا، مع تقسيم إداري للمقاطعات الزراعية وموانئ الداخل.
أما في سينغاساري، فكانت السلطة أكثر تطورًا، حيث أدخل كين أروك نظامًا عسكريًا فعالًا، وبدأت مملكته تميل إلى الطابع الإمبراطوري، خاصة في عهد خلفه كرتاناغارا (حكم 1268–1292م)، الذي سيصبح أعظم ملوك سينغاساري.

3. الحياة الاقتصادية والتجارية

واصلت كنديري وسينغاساري الاعتماد على الزراعة كثقل اقتصادي، خاصة الأرز في السهول الجاوية.
لكن سينغاساري شهدت تطورًا في النشاط التجاري الخارجي، إذ بدأت المملكة تُرسل بعثات بحرية إلى سومطرة، وسواحل كلمانتان، والملايو، في محاولة لإزاحة نفوذ سريفيجايا الآفل.
ازدهرت الصناعات اليدوية: النحت، صياغة الذهب، صناعة الأسلحة، ونُسجت تحالفات مع التجار المحليين كأداة للنفوذ السياسي.

4. الدين والثقافة الرسمية

مثل سابقتها ماتارام، عاشت كنديري وسينغاساري على توازن دقيق بين الهندوسية والبوذية.
الملوك غالبًا ما جمعوا بين الرمزين الدينيين، فكان الملك يُقدّس بعد موته كـ"تجسد إلهي"، يجمع صفات شيفا وبوذا.
ازدهر الأدب الجاوي الكلاسيكي، وظهرت نصوص محلية تُعيد صياغة الملحمات الهندية بلغة كافي الجاوية القديمة.
في عهد كرتاناغارا، بلغ التداخل بين الدين والسياسة ذروته، إذ أُعلن عن طقوس "تأليه الملك حيًّا" كنوع من تثبيت الشرعية المقدسة.

5. الحياة الاجتماعية والثقافية لعامة الشعب

كانت الحياة الاجتماعية في شرق جاوة أكثر تنوعًا مما سبق:

  • الفلاحون شكّلوا القاعدة الإنتاجية، مع نظام ضرائب يعتمد على المحاصيل.
  • ظهرت طبقة التجار الصاعدين، خاصة في الموانئ الداخلية المرتبطة بالتجارة العابرة للجزر.
  • لعبت المرأة أدوارًا متعددة في الاقتصاد المنزلي، والحرف اليدوية، بل وفي الطقوس المحلية التي لم تكن كلها خاضعة للمؤسسة الدينية الرسمية.
  • المعتقدات الشعبية الأرواحية تداخلت مع البوذية والهندوسية، مما أعطى للحياة الدينية طابعًا فلكلوريًا معقدًا.

6. العلاقات الخارجية والصراعات

بدأت سينغاساري عهدًا جديدًا من السياسة الخارجية التوسعية، خاصة في عهد الملك كرتاناغارا:

  • مع سريفيجايا: قاد حملة بحرية كبرى نحو الملايو عام 1275م، واستولى على مملكة تامبرا لينغا في شبه جزيرة الملايو، في محاولة لإنهاء ما تبقى من نفوذ سريفيجايا.
  • مع الصين (أسرة يوان): أرسل قوبلاي خان مبعوثين إلى كرتاناغارا عام 1289م يطلبون الخضوع، فرفض كرتاناغارا وأهانهم، مما أغضب الصين.
  • مع جزر سوندا وبورنيو: حاول إقامة شبكة تحالفات وسيطرة عسكرية.

هذه السياسة خلقت له أعداء محليين ودوليين، ما أدى لاحقًا إلى التحالف بين خصومه والقوة المغولية القادمة من الصين.

7. الانحدار والسقوط

في عام 1292م، وبينما كان كرتاناغارا في أوج قوته، وقع انقلاب داخلي قاده جاياكاتوانغ من كيديري، أدى إلى اغتيال الملك وانهيار سينغاساري.
في العام التالي، أرسل قوبلاي خان حملة عسكرية إلى جاوة للانتقام من كرتاناغارا، لكنها وجدت المملكة قد سقطت بالفعل.
هنا ظهر الوريث الحقيقي لهذا الإرث: راتاناجايا (ويُعرف لاحقًا باسم ويجايا)، الذي خدع المغول، ثم طردهم، وأسّس مملكة جديدة سنة 1293م: ماجاباهيت.

8. الأثر التاريخي والاستمرارية

رغم قِصر عمر سينغاساري، فإن أثرها كان عميقًا:

  • هيأت المسرح لصعود ماجاباهيت.
  • أدخلت فكرة الدولة الجاوية التوسعية العابرة للجزيرة.
  • أرست استخدام الدين كأداة للشرعية السياسية.
  • طورت البيروقراطية والمراسلات الدولية، ووسعت من دائرة النفوذ الجاوي نحو الملايو.

خاتمة تحليلية

كانت كنديري وسينغاساري همزة الوصل بين ماضي جاوة الزراعي، ومستقبلها الإمبراطوري.
من الصراعات الدينية إلى الحملات البحرية، ومن النصوص المقدسة إلى الدماء الملكية، رسمت هذه الممالك خارطة جديدة للسلطة في الأرخبيل.
وما إن غربت شمس سينغاساري، حتى بزغت شمس ماجاباهيت من رمادها.


وصف الصورة:

مشهد واقعي لقلعة أو قصر جاوي في بيئة طبيعية شرقية، يظهر فيه ملك يرتدي ملابس احتفالية ذهبية، وخلفه معبد حجري ضخم، وتحيط به حاشية ومسؤولون. في الخلفية تظهر جبال خضراء وسفن جاوية على النهر، والمشهد يوحي بالفترة بين القرنين 13 و14 الميلادي.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم