/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

ماجاباهيت (1293–1500م): الإمبراطورية الجاوية الكبرى وتوحيد الأرخبيل

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك: 

في التاريخ الإندونيسي، لا اسم يُضاهي ماجاباهيت في الحضور الرمزي والروحي.
فهي الإمبراطورية التي وسّعت حدود جاوة إلى معظم أرخبيل الملايو، وخلقت حلم "الوحدة البحرية الكبرى"، وتركت أثرًا لا يُمحى في الثقافة والسياسة والذاكرة الجماعية.
من صراع دموي مع المغول إلى شبكة تحالفات بحرية واسعة، ومن حكم ملكي ديني إلى حكومة بيروقراطية معقدة، عاشت ماجاباهيت في ذروة المجد ثم سقطت بصمت، تاركة المجال لصعود الإسلام وسلاطين البحر.

1. النشأة والظروف التأسيسية

تأسست ماجاباهيت في عام 1293م على يد القائد الجاوي ويجايا (راتاناجايا)، حفيد كرتاناغارا، بعد أن تحالف مؤقتًا مع الحملة المغولية التي أرسلها قوبلاي خان للانتقام من مقتل مبعوثه.
بعد أن طرد المغول بدهاء، أعلن ويجايا قيام مملكة جديدة في تروولان شرق جاوة، واتخذ من شعار "نوسانتارا" (الجزر الخارجية) مشروعًا سياسيًا لتوسيع النفوذ.

2. البنية السياسية والإدارية

تبنت ماجاباهيت نموذجًا سياسيًا مركزيًا قائمًا على:

  • الملك الإلهي (راجا)، باعتباره محور الكون وأداة الشرعية الدينية.
  • مجلس وزراء قوي يديره الوزير الأعظم غاجا مادا (Gajah Mada)، العقل المدبر وراء التوسع.
  • نظام بيروقراطي متماسك، مع تقسيم الدولة إلى وحدات إدارية مركزية، وأخرى تابعة ومحلية في الجزر البعيدة.
  • اعتماد الرسائل الملكية والمعاهدات البحرية لضبط الأطراف البعيدة من السلطنة.

3. الحياة الاقتصادية والتجارية

بلغ الاقتصاد ذروته في عهد ماجاباهيت:

  • كانت الزراعة أساس الداخل الجاوي، خاصة زراعة الأرز.
  • أما التجارة، فشكّلت العمود الفقري للإمبراطورية، خاصة عبر الموانئ الساحلية مثل سورابايا وغريسيك، والتي ربطت ماجاباهيت بطرق التجارة بين الصين والهند والخليج العربي.
  • جنت الدولة ضرائب جمركية من مرور البضائع، وساعدها أسطولها البحري في حماية الطرق التجارية.

4. الدين والثقافة الرسمية

عاشت ماجاباهيت في بيئة تعدد ديني وثقافي:

  • رسميًا، تبنّت مزيجًا من الهندوسية الشيفية والبوذية التانتراية.
  • كان الملك يُقدّس بعد موته ويُشيّد له معبد، كجزء من الطقس الديني والسياسي.
  • ازدهرت الفنون والأدب:

      • ظهرت قصيدة ناغاراكرتاغاما (1365م) التي تصف حدود الإمبراطورية ومعتقداتها.
      • انتشر الأدب الجاوي الكلاسيكي والفنون المسرحية، خاصة مسرح الظل الوايانغ.

5. الحياة الاجتماعية والثقافية لعامة الشعب

انقسم المجتمع في ماجاباهيت إلى طبقات واضحة:

  • الطبقة الحاكمة والنخبة الدينية.
  • طبقة التجار، الذين ازدهروا مع التوسع البحري.
  • الفلاحون الذين شكّلوا قاعدة الاقتصاد الزراعي.
  • العبيد والخدم في خدمة الطبقات العليا.

عاش الشعب في قرى منظمة، وكان الدين الشعبي مزيجًا من الأرواحية والهندوسية والبوذية، مع طقوس موسمية، وأسواق حية، ومهرجانات احتفالية.

6. العلاقات الخارجية والصراعات

في عهد غاجا مادا (رئيس الوزراء الأشهر)، أُطلقت سياسة توسعية تُعرف بـ"عهد بالابا"، وتعهد خلالها بعدم التلذذ بالطعام حتى تُوحّد كل الجزر.

نجحت ماجاباهيت في مد نفوذها إلى:

  • سومطرة (بما فيها أراضي سريفيجايا السابقة).
  • ملايو وشبه جزيرة الملايو.
  • كالمنتان، وسولاويسي، وأجزاء من نوسا تنقارا.
  • وهناك أدلة على نفوذها في جزر الفلبين الجنوبية.

تعاملت المملكة دبلوماسيًا مع الصين (أسرة مينغ)، ومع الهند وسريلانكا، واحتضنت تجارًا مسلمين من العرب والهند، رغم أنها لم تكن دولة إسلامية بعد.

7. الانحدار والسقوط

بدأ الانحدار في القرن الخامس عشر، لأسباب عدة:

  • صراعات داخلية على الحكم بعد وفاة الملك العظيم هايام وروك.
  • تزايد قوة السلطنات الإسلامية الساحلية (مثل ديماك)، والتي كسبت دعم التجار.
  • تراجع النظام الديني القديم أمام زحف الإسلام عبر الموانئ.
  • فقدان السيطرة على الجزر البعيدة نتيجة ضعف الأسطول وتنامي النزاعات.

بحلول عام 1500م، كانت ماجاباهيت قد فقدت معظم قوتها، وانهارت رسميًا في العقود التالية، بعد سيطرة سلطنة ديماك الإسلامية على جاوة.

8. الأثر التاريخي والاستمرارية

  • أصبحت ماجاباهيت رمزًا للوحدة الوطنية في الذاكرة الإندونيسية الحديثة، واستُخدم اسمها في الخطاب القومي المعاصر.
  • كانت آخر إمبراطورية جاوية غير إسلامية، وورثتها السلاطين المسلمون لاحقًا.
  • خلفت إرثًا فنيًا ومعماريًا، ووضعت الأساس الإداري والديني للملكية الجاوية التقليدية.
  • ألهمت مشروع “إندونيسيا الحديثة” باعتبارها نموذجًا تاريخيًا لوحدة الجزر.

خاتمة تحليلية

مثّلت ماجاباهيت ذروة المجد الجاوي في التاريخ الوسيط.
كانت آخر صياغة للإمبراطورية الهندوسية البحرية في أرخبيل تحوّل لاحقًا نحو الإسلام.
وبينما خمد وهج المعابد، بدأت المآذن ترتفع، معلنة مرحلة جديدة في مسيرة الجزر.


وصف الصورة:

لوحة واقعية تظهر مشهدًا فخمًا لقصر ماجاباهيت، ملك يجلس على العرش يرتدي تاجًا ذهبيًا، تحيط به وزراء وكتّاب يحملون لفائف، في فناء مفتوح تحفّ به معابد حجرية ونخيل، مع خريطة بحرية على الأرض تُظهر الجزر.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم