/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

الإسلام وسلاطين البحر (القرن 15–17م): المدّ الإسلامي وبزوغ العهد الملايوي

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك: 

مع أفول شمس ماجاباهيت، لم تسقط جاوة وسومطرة في فراغ… بل كانت موانئ الساحل قد بدأت تشهد تحولًا روحيًا وثقافيًا عميقًا:
الإسلام، الذي تسلل أولًا عبر تجار العرب والفرس والهنود، ثم تحوّل إلى دين للحُكم والسيادة، لتولد سلطنات بحرية مسلمة قادت تحوّلات هائلة في الأرخبيل والملايو.
هنا لا نتحدث فقط عن دين جديد، بل عن انقلاب في هوية الدولة، وموازين التجارة، ومفهوم الشرعية السياسية.

1. النشأة والظروف التأسيسية

وصل الإسلام تدريجيًا إلى الأرخبيل بدءًا من القرن التاسع، لكن تحوله إلى دين رسمي للسلطة بدأ في القرن 15م.
أول سلطنة مسلمة كبرى ظهرت في ديماك (وسط جاوة) حوالي 1475م، على أنقاض ماجاباهيت، ثم لحقتها سلطنة مالقا في شبه الجزيرة (1400م)، وسلطنة آتشيه في شمال سومطرة، وسلطنة بنتن، وسلطنة تيرينغغانو، وسواها.
المُشترك: كلها بدأت كموانئ تجارية تحولت إلى كيانات سياسية إسلامية، بقيادة طبقة تجار مثقفين بالعلوم الدينية والتجارية.

2. البنية السياسية والإدارية

نموذج السلطنة الإسلامية اتبع نمطًا مختلفًا عن الممالك الهندوسية السابقة:

  • السلطان كان الحاكم الأعلى، يجمع بين السلطة السياسية والشرعية الدينية، ويُقدم كظلّ لله في الأرض.
  • تأسس البلاط على نموذج فارسي-عثماني مبسّط، مع ديوان شرعي، ومستشارين، ووزارات للمالية والتجارة والبحر.
  • ظهرت مراكز العلم الشرعي والفقهي، وأصبح القضاء تحت إشراف القضاة والفقهاء.
  • تولى علماء الدين أدوارًا كبرى في ترسيخ الحكم وبناء المؤسسات.

3. الحياة الاقتصادية والتجارية

في هذا العصر، أصبحت الموانئ الإسلامية مراكز التجارة الرئيسية في جنوب شرق آسيا:

  • مدينة ملقا أصبحت عقدة طريق التجارة بين الشرق الأقصى والهند واليمن.
  • آتشيه أضحت مركزًا لتصدير الفلفل والقهوة والمنسوجات.
  • انتشر استخدام العملة الذهبية (مثل الدينار) والفضية، وتأثرت الأسواق بالشريعة.
  • قدّمت السلطنة الحماية للأساطيل التجارية، وفرضت ضرائب جمركية لصالح الخزينة.
  • لم يكن التجار مسلمون فقط، بل احتُضن أيضًا الصينيون والهنود، ضمن نظام حماية وتسامح ديني محسوب.

4. الدين والثقافة الرسمية

أصبح الإسلام دين الدولة والسلطة، وتحوّلت الرمزية الملكية من الطقوس الهندوسية إلى:

  • الخطبة والدعاء للسلطان.
  • استخدام الألقاب الإسلامية مثل "السلطان" و"الشهيد" و"الحاج".
  • تشييد المساجد بدل المعابد، وإنشاء المدارس (البيسانترن) والزوايا الصوفية.
  • انتشار الكتابة بالجاوية العربية (Jawi) بدلًا من الكافي الهندي.
  • ظهور أدب إسلامي محلي: السير، التفسير، التصوف، الفقه.

برزت شخصيات دينية مثل الولي سانغا (Wali Sanga) في جاوة، وهم 9 دعاة كبار أسسوا الإسلام هناك، ومزجوا بين الدعوة والتأثير السياسي، والاقتراب من الثقافة الجاوية دون صدام.

5. الحياة الاجتماعية والثقافية لعامة الشعب

شكّل هذا العصر تحولًا عميقًا في بنية المجتمع:

  • بدأ التحول الديني الجماعي من الهندوسية والبوذية نحو الإسلام، خاصة في المدن الساحلية.
  • احتفظ الريف الجاوي والسوندي بعناصر ثقافية تقليدية، لكنّه تأثر تدريجيًا بالتعاليم الإسلامية.
  • المرأة المسلمة حظيت بحقوق في التجارة والميراث، وشاركت في الحياة الاقتصادية.
  • التعليم الديني أصبح متاحًا للعامة عبر المدارس الشعبية والكتاتيب، مما ساهم في بروز فقهاء وتجار متدينين.

6. العلاقات الخارجية والصراعات

في هذه المرحلة، دخلت المنطقة في شبكة صراعات وتحالفات جديدة:

  • علاقات مع الدولة العثمانية: خاصة سلطنة آتشيه، التي تلقت دعمًا معنويًا وأحيانًا عسكريًا.
  • صراع مع البرتغاليين بعد سقوط ملقا عام 1511م، حيث دخلت المنطقة في صدام مع القوى الأوروبية الصاعدة.
  • تحالفات إسلامية بين السلاطين ضد النفوذ المسيحي البرتغالي والإسباني.
  • صراعات داخلية بين السلاطين أنفسهم على النفوذ والسيطرة على الموانئ.

7. الانحدار والتحول

رغم المدّ الإسلامي، لم يكن العصر خاليًا من التحديات:

  • المنافسة التجارية والسياسية بين السلاطين أضعفت الوحدة.
  • الاحتلال البرتغالي لملقا مثّل بداية التدخل الأوروبي المباشر.
  • تحول السلطة الدينية أحيانًا إلى وسيلة للشرعية لا للمحاسبة.
  • ومع دخول القرن السابع عشر، بدأت هولندا تفرض حضورها بقوة، إيذانًا بعهد استعماري طويل.

8. الأثر التاريخي والاستمرارية

  • رسّخت هذه المرحلة الإسلام بوصفه الدين الشعبي والرّسمي في الأرخبيل، خاصة في جاوة وسومطرة وملقا.
  • تأسس نظام "السلطنة الإسلامية الملايوية"، الذي استمر قرونًا في بروناي وجوهر وبنتن وتيرينغغانو وغيرها.
  • أرسى الإسلام هوية ثقافية جديدة، قائمة على الشريعة واللغة الجاوية-العربية، والفنون الإسلامية المحلية.
  • مهّد التفاعل بين الإسلام والتجارة والمجتمع لولادة نخبة مسلمة مثقفة، قاومت الاستعمار لاحقًا، وكانت نواة الحركة الوطنية.

خاتمة تحليلية

دخلت الجزر في الإسلام ليس قهرًا بالسيف، بل عبر التجارة، واللغة، والتعليم، والزواج، والنخبة الاقتصادية.
وكانت السلطنة الإسلامية شكلًا جديدًا من الحكم: بحري، تاجر، متدين، مرن.
ومع أنها لم تُقم وحدة سياسية كالتي حلم بها غاجا مادا، فإنها غيّرت جوهر الأرخبيل إلى الأبد.


وصف الصورة:

مشهد واقعي لميناء ساحلي في القرن 15م عند الغروب، تظهر فيه مئذنة مسجد خشبي، وسفن شراعية راسية، وسوق نشط فيه رجال يرتدون العمائم والنساء يلبسن أغطية رأس، مع سلطان مسلم يقف فوق منصة خشبية يخاطب الناس.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم