سلطنات الأرخبيل: لماذا حافظت ماليزيا على سلاطينها بينما ألغتهم إندونيسيا؟

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك:

في عمق أرخبيل الملايو، الممتد من سواحل تايلند جنوبًا حتى جزر تيمور، عاشت شعوب الجزر قرونًا طويلة في ظل نظم سياسية ملكية محلية متباينة، تراوحت بين سلطنات إسلامية وممالك بوذية وهندوسية. وحين دقّت أوروبا أبواب الشرق، مثّل ذلك بداية زوالٍ تدريجي لأغلب هذه الكيانات، لكن مصيرها لم يكن واحدًا.

لماذا انتهت السلطنات في إندونيسيا، بينما بقيت حية داخل النظام السياسي الماليزي حتى اليوم؟
الإجابة ليست في الدستور فحسب، بل في التاريخ الأعمق.

أولًا: ما قبل الاستعمار.. أرخبيل من الممالك والسلطنات

قبل الإسلام:

  • كانت الممالك الكبرى مثل "سريفيجايا" (650–1200م) تهيمن على الملايو وسومطرة، وهي مملكة بوذية تجارية بحرية.
  • ثم جاءت "ماجاباهيت" (1293–1500م) من جاوة، وكانت مملكة هندوسية ذات نفوذ واسع، لكنها لم تكن موحدة إداريًا، بل تحالفًا هشًا من الممالك المحلية.

مع الإسلام:

  • تحول الأرخبيل تدريجيًا من القرن 14 فصاعدًا إلى سلطنات إسلامية.
  • في الملايو ظهرت سلطنة ملقا كنموذج سلطاني مركزي، ثم تفرعت عنها سلطنات جوهر، برك، فهغ، سلاغور وغيرها.
  • في جزر إندونيسيا ظهرت عشرات السلطنات: ديماك، ماتارام، آتشيه، بانتن، تيرناتي، تيدور، بوني، ماكاسار، وسامودرا باساي.

كل واحدة من هذه الكيانات كانت تمارس الحكم المحلي الفعلي، ولها تجارتها وعملاتها وتحالفاتها.

ثانيًا: الصدمة الأوروبية وتباين الاستجابات

البرتغاليون (1511):
احتلوا ملقا وأسقطوا السلطنة الكبرى في الملايو، ما أدى إلى تفكك وحدتها. لم يتمددوا كثيرًا في باقي الأرخبيل.

الهولنديون (من 1602):
دخلوا عبر شركة الهند الشرقية الهولندية، سيطروا على جاكرتا (باتافيا)، وخاضوا حروبًا ضد معظم السلطنات. استخدموا القمع، الاحتكار التجاري، والتفكيك التدريجي للسلطنات. أبقوا بعضها تحت الهيمنة الشكلية.

البريطانيون (من 1786):
دخلوا شبه جزيرة الملايو عبر بينانغ ثم سنغافورة، لكنهم اختاروا أسلوب الحكم غير المباشر. عقدوا معاهدات مع السلاطين، وأبقوهم رمزيًا على العروش مقابل التبعية الإدارية.

ثالثًا: مرحلة الاستقلال.. جمهوريات مقابل ملكيات

في إندونيسيا:

  • أعلن الاستقلال عام 1945 بقيادة القوميين.
  • تم إلغاء كل السلطنات القديمة باعتبارها إرثًا إقطاعيًا.
  • حتى السلطنة التي دعمت الاستقلال مثل "يوجياكارتا" لم تُمنح سوى وضع خاص رمزي، لا سلطات فعلية.

في ماليزيا:

  • حصلت على الاستقلال عام 1957.
  • ضمّت 9 سلطنات احتُفظ بها في النظام الفدرالي.
  • وُضِع نظام فريد من نوعه: ملك فدرالي يُنتخب كل 5 سنوات من بين سلاطين الولايات، بصلاحيات دستورية رمزية.
  • بذلك أصبحت ماليزيا الدولة الوحيدة في العالم ذات "ملكية دورية بين سلاطين محليين".

رابعًا: الفروق الجوهرية بين التجربتين

1. طبيعة الكيانات قبل الاستعمار:

  • ماليزيا كانت أقرب إلى سلطنات مستقرة ذات تقاليد سلطانية موحدة.
  • إندونيسيا كانت خليطًا من ممالك وسلطنات وأعراف محلية متباينة.

2. نمط الاستعمار:

  • الاستعمار البريطاني في الملايو كان غير مباشر، وأبقى السلاطين في المشهد.
  • الاستعمار الهولندي في إندونيسيا كان قمعيًا ومركزيًا، وسعى لتفكيك كل الكيانات التقليدية.

3. المصير بعد الاستقلال:

  • ماليزيا حافظت على السلاطين وأدمجتهم في هيكل الدولة.
  • إندونيسيا ألغت كل الملوك والسلاطين، وأقامت جمهورية قومية مركزية.

4. العلاقة بالإسلام السياسي والتراث المحلي:

  • ماليزيا ربطت بين الهوية الملايوية، الإسلام، والسلطة السلطانية.
  • إندونيسيا بنت خطابًا جمهوريًا قوميًّا حديثًا، يتجاوز الإسلام السياسي ويقطع مع التاريخ الملكي.

خاتمة

خرجت ماليزيا من الحقبة الاستعمارية حاملةً معها رموزها التقليدية، ودمجتها بمرونة في مشروع الدولة الحديثة. أما إندونيسيا، فقد اختارت تأسيس جمهوريتها من جذور جديدة، قاطعةً مع نظام السلطنات، ومستبدلةً الهُويات المحلية المتعددة بهوية وطنية موحدة.

إنه الفرق بين دولة احتفظت بسلاطينها كرمز للهوية والشرعية، وأخرى تجاوزتهم ضمن مشروع قومي جمهوري جذري.


وصف الصورة:

صورة واقعية تاريخية تُظهر مجلسًا تقليديًا لزعماء محليين في أرخبيل الملايو خلال القرن 19، يظهر فيه السلاطين بملابسهم التقليدية بجانب مستعمرين أوروبيين في مشهد رسمي، يعبّر عن التداخل بين السلطة المحلية والحضور الأجنبي.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم