
سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك:
بين الأمواج الجنوبية لشبه جزيرة الملايو، ووسط الغابات الاستوائية الممطرة، وُلدت واحدة من أقدم الممالك الإسلامية في جنوب شرق آسيا: مملكة فطاني. لم تكن فطاني مجرد كيان سياسي، بل مركزًا حضاريًا وثقافيًا بارزًا للهوية الملايوية الإسلامية. ومع ذلك، وجدت هذه المملكة نفسها، بصفقة استعمارية صامتة، تنسلخ عن الجسد الملايوي وتُضم إلى مملكة سيام (تايلند حاليًا)، لتبدأ معاناة شعوبها في النسيان والتهميش والاضطهاد الثقافي حتى يومنا هذا.
النشأة والمجد: مملكة فطاني الإسلامية
- نشأت مملكة فطاني في أقصى الجنوب التايلندي الحالي، ويُعتقد أن تأسيسها يعود إلى القرن الـ 14 الميلادي، بعد أن دخل الإسلام إلى المنطقة عبر التجار العرب والفرس والهنود.
- سرعان ما أصبحت فطاني مركزًا دينيًا وعلميًا وتجاريًا للملايو، وتوسعت سلطتها لتشمل مدنًا ساحلية عدة مثل يارا، ناراثيوات، وسونغكلا.
- كانت المملكة تُدار وفق النظام الإسلامي، وازدهرت فيها الفنون والعلوم، وأقامت علاقات واسعة مع دول إسلامية من بينها العثمانيون والمغول الهنود.
النفوذ السيامي: بداية التهديد
- في القرنين 17 و18، بدأت مملكة سيام البوذية في الشمال تسعى للهيمنة على فطاني.
- رغم المقاومة، فرضت سيام نوعًا من التبعية الشكلية، لكنها لم تستطع إخضاع فطاني بالكامل بسبب بُعدها الجغرافي والروابط القوية بين فطاني وسلطنات الملايو الأخرى.
لحظة التحول: معاهدة بانكوك 1909
السياق:
- في أواخر القرن 19، كانت بريطانيا تُوسع نفوذها على أرخبيل الملايو، بينما كانت سيام تحاول الحفاظ على استقلالها النسبي وسط الضغوط الأوروبية.
- دخلت الدولتان في مفاوضات لترسيم الحدود بين مستعمرات بريطانيا في مالايا، والمناطق التي تطالب بها سيام.
تفاصيل المعاهدة:
في مارس 1909، وُقّعت معاهدة بانكوك بين بريطانيا وسيام. نصّت على:
- اعتراف بريطانيا بسيادة سيام على فطاني وأربع مناطق أخرى (يارا، ناراثيوات، ساتون، وسونغكلا).
- في المقابل، تنازلت سيام عن سيادتها على قدح، كلنتان، ترنغانو، وبرليس لصالح بريطانيا.
النتائج:
- أُجبرت فطاني على الانفصال عن محيطها الملايوي.
- أصبحت جزءًا من الدولة التايلندية رسميًا، دون أي استفتاء أو تمثيل لشعبها.
- كانت هذه الخطوة بداية لما يُعرف بـ الاستعمار الداخلي التايلندي لفطاني.
الوضع الملايوي حينها: الصدمة والانقسام
لم يكن ضم فطاني إلى تايلند مجرد تغيير إداري، بل ضربة لهوية كاملة:
- فُرضت اللغة التايلندية في المدارس.
- جرى تهميش اللغة الملايوية والحروف الجاوية.
- أُجبر السكان على اعتناق الثقافة التايلندية البوذية.
- أُضعفت الروابط مع العالم الإسلامي.
ظهرت حركات احتجاج ومقاومة، لكن معظمها كان محليًا ومحدود الدعم الخارجي بسبب غياب الاعتراف الدولي بمظلمة فطاني.
المقاومة الصامتة والمستمرة
منذ عشرينيات القرن الماضي حتى اليوم، عرفت فطاني موجات من المقاومة السلمية والمسلحة، لكن غالبًا ما كان الرد التايلندي قاسيًا:
- اعتقالات جماعية ونفي الزعماء الدينيين.
- فرض حالة طوارئ دائمة في الجنوب.
- تغييب القضية عن الإعلام العالمي.
رغم ذلك، لا تزال فطاني تحتفظ بهويتها:
- 80–90٪ من سكانها مسلمون.
- اللغة الملايوية ما زالت تُستخدم داخل البيوت والمساجد.
- الحركة الإسلامية والثقافية لا تزال تناضل من أجل الاعتراف والحقوق والحكم الذاتي.
تحليل الحدث: كيف صمت العالم عن فطاني؟
1. الصفقات الاستعمارية الصامتة:
- لم تكن المعاهدة بين بريطانيا وسيام ذات مشروعية شعبية.
- تم تقسيم الأرض والناس كأنهم "أراضٍ تجارية"، لا كيانات حضارية.
2. إضعاف الهوية الملايوية:
- فصل فطاني عن باقي سلطنات الملايو أفقدها القوة والظهير الإسلامي.
3. عدم تدويل القضية:
- بخلاف فلسطين أو كشمير، لم تُعطَ قضية فطاني بعدًا دوليًا، مما سهّل استمرار الوضع.
4. البنية المركزية التايلندية القوية:
- نجحت تايلند في فرض إدارة صارمة ومركزية، مدعومة بالجيش، لقمع أي نزعة انفصالية.
خاتمة
فطاني ليست مجرد منطقة جغرافية مسلمة داخل دولة بوذية، بل هي جرح مفتوح في جسد الملايو الإسلامي، ونتيجة مباشرة لتحالف القوى الاستعمارية مع الدول الناهضة على حساب الشعوب الصغيرة. وما لم يُفتح هذا الملف بجدية، فستبقى معاناة الملايو في الجنوب التايلندي طي النسيان، رغم كل ما يملكونه من تاريخ وهوية وإرادة.
وصف الصورة:
صورة واقعية تُظهر مسجدًا تاريخيًا في جنوب تايلند (فطاني) تحيط به قرية تقليدية، مع علم تايلند في الخلفية، يعبر عن التناقض بين الانتماء الإسلامي والحكم التايلندي.