الاحتلال البرتغالي والبريطاني لماليزيا: من ملقا إلى الاتحاد الفدرالي

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك:

لم تكن ماليزيا، عبر تاريخها، دولة موحدة، بل فسيفساء من السلطنات الساحلية التي ازدهرت على التجارة والثقافة الإسلامية. لكن حين بدأ الغزو الأوروبي، واجه هذا التعدد السلطاني اختبارًا وجوديًا. جاءت البرتغال أولًا، ثم بريطانيا، ولم يخرج هذا الاستعمار إلا بعد أن أعاد تشكيل هوية البلاد وحدودها السياسية.

أولًا: البرتغاليون يسقطون ملقا (1511)

خلفية:

  • كانت سلطنة ملقا (1400–1511) واحدة من أعظم القوى البحرية في أرخبيل الملايو، ومركزًا تجاريًا إسلاميًا يربط الشرق بالغرب.
  • سيطرت على الملاحة بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي، وجذبت إليها تجار العرب والهنود والصينيين.

الاحتلال البرتغالي:

  • في 1511، قاد القائد البرتغالي أفونسو دي ألبوكيرك حملة بحرية سريعة أسقطت ملقا بعد مقاومة عنيفة.
  • نُهبت المدينة، وفر السلطان إلى الجنوب (جوهر)، مؤسسًا سلطنة بديلة هناك.

آثار الاحتلال:

  • دمرت البرتغال شبكة التجارة الإسلامية.
  • حاولت تنصير السكان، وفشلت في كسب دعم الأهالي، فعاشوا داخل "القلعة البرتغالية" أكثر مما حكَموا البلاد.
  • رغم أن البرتغاليين لم يتوسعوا كثيرًا داخل شبه الجزيرة، فإنهم مزقوا وحدة ملقا وأطلقوا عصر التفكك السلطاني.


ثانيًا: البريطانيون يدخلون اللعبة (1786–1957)

البداية التجارية:

  • دخلت شركة الهند الشرقية البريطانية إلى المنطقة عبر جزيرة بينانغ، التي حصلوا عليها من سلطان قدح عام 1786.
  • أسسوا قاعدة في سنغافورة عام 1819 بموافقة السلطان، وجعلوها مركزًا حيويًا للتجارة.

تقسيم النفوذ:

  • عقد البريطانيون سلسلة اتفاقيات مع السلاطين، ضمنت لهم التدخل "للمساعدة" في الإدارة.
  • بحلول منتصف القرن 19، فرضوا نظام الحُكم غير المباشر:
  • السلاطين ظلوا على عروشهم.
  • لكن الحاكم الفعلي هو "المقيم البريطاني"، الذي يوجه القرارات.

أهم الأحداث:

1. الحرب الأهلية في بيراق وفهغ وسلاغور (1860–1870): 
  • كانت صراعات داخلية على العرش، استغلها البريطانيون للتدخل العسكري وفرض نفوذهم.
2. الاتحاد الملايوي (1895): 
  • ضمّوا أربع ولايات إلى نظام موحد تحت إشراف بريطاني، ما مهد لاحقًا لفكرة الدولة الاتحادية.
3. ضم صباح وسراوق: 

  • كانت في البداية تحت نفوذ "عائلة بروك" البريطانية (سراوق)، وشركة بريطانية تجارية (صباح).
  • لاحقًا أصبحتا محميتين بريطانيتين رسميًا.

4. الحرب العالمية الثانية (1941–1945):

  • احتل اليابانيون ماليزيا، وأهانوا البريطانيين، مما كشف هشاشة حكمهم.
  • شجع ذلك الحركات القومية على المطالبة بالاستقلال لاحقًا.


ثالثًا: أحوال الشعب الماليزي تحت الاستعمار

  • الاقتصاد كان موجهًا لتصدير القصدير والمطاط.
  • فُرضت ضرائب ثقيلة على السكان الأصليين، واستُجلب العمال الصينيون والهنود بأعداد ضخمة، مما غيّر التوازن السكاني.
  • لم يُسمح للملايويين بتولي مناصب كبرى، وتم تقليص التعليم الإسلامي.
  • ظهرت فجوة طبقية وعرقية شديدة:
  • الصينيون كانوا في الاقتصاد،
  • الهنود في المزارع،
  • الملايويون على هامش السلطة.


رابعًا: المقاومة والاستقلال

المقاومة:

  • بدأت بحركات إصلاحية إسلامية في بدايات القرن 20.
  • ظهرت جمعيات سياسية مثل:
  • "حزب الأمن الملايوي".
  • "الاتحاد الملايوي الوطني".
  • "حزب المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة" (UMNO)، بقيادة تونكو عبد الرحمن.

نهاية الاحتلال:

  • بعد الحرب العالمية الثانية، حاول البريطانيون توحيد ماليزيا وسنغافورة في "اتحاد مالايا"، لكن واجه مقاومة شعبية.
  • تم إعلان الاستقلال في 31 أغسطس 1957 بقيادة تونكو عبد الرحمن.
  • في عام 1963، تشكلت ماليزيا الحديثة بضم صباح، سراوق، وسنغافورة (التي انفصلت لاحقًا).


تحليل الحدث: ما الذي ميّز التجربة الاستعمارية في ماليزيا؟

1. النمط البريطاني غير المباشر:

  • حافظ البريطانيون على السلاطين كواجهة شرعية، ما جعل فكرة العودة للحكم المحلي ممكنة لاحقًا.
  • هذا النمط خفف من الحقد الشعبي بالمقارنة مع الاستعمار الهولندي في إندونيسيا.

2. الهندسة السكانية:
  • جلب العمالة الأجنبية أحدث خللًا سكانيًا، لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم في توازن العرقيات.
3. الهوية الملايوية بقيت محفوظة:
  • ظل الإسلام واللغة الملايوية ركيزة أساسية، بخلاف ما جرى في مناطق أخرى من المستعمرات البريطانية.
4. الدفع التدريجي نحو الحكم الذاتي:
  • البريطانيون أعدّوا نخبًا محلية للحكم، وسلّموا السلطة ضمن خطة مدروسة، بدل الخروج الفجائي كما حصل في الهند أو فلسطين.

خاتمة

جاء البرتغاليون غزاة وأسقطوا قلب الملايو، لكنهم فشلوا في الحكم. أما البريطانيون، فدخلوا بحيلة التجارة، ثم استولوا على الإدارة تدريجيًا، حتى جعلوا من السلاطين أدوات ضمن نظامهم. ومع ذلك، فإن الطبيعة غير المباشرة للحكم، واستمرار الهياكل التقليدية، سمحت لماليزيا بأن تنبثق لاحقًا كدولة فدرالية حديثة ذات طابع إسلامي وسلطاني فريد.


وصف الصورة:

صورة واقعية تعود للقرن 19 تُظهر مشهدًا في مستعمرة ملقا، يظهر فيها جنود بريطانيون وموظفون محليون بالزي الملايوي، وخلفهم مبانٍ إدارية استعمارية، مع تعبير بصري عن التعايش القسري بين الاحتلال والنظام المحلي.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم