بروناي: السلطنة التي قاومت الذوبان وبقيت مستقلة

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك:

في الركن الشمالي من جزيرة بورنيو، تتربّع بروناي دار السلام كدولة صغيرة المساحة، ضخمة الثروة، ذات حضور تاريخي يعود لقرون طويلة. لكن السؤال الذي يُطرح كثيرًا: لماذا لم تنضم بروناي إلى اتحاد ماليزيا كبقية السلطنات الملايوية؟ ولماذا تأخر استقلالها عن بريطانيا حتى عام 1984، بينما سبقتها أغلب مستعمرات المنطقة بسنوات؟

لفهم هذه المفارقة، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية، وتتبّع المسار المعقّد لسلطنة بروناي بين المجد البحري، والانكماش الاستعماري، والقرار الواعي بالبقاء ككيان مستقل.


سلطنة بحرية كبرى قبل الاستعمار

كانت بروناي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر واحدة من أعظم الممالك الملايوية البحرية. امتد نفوذها على أجزاء واسعة من شمال بورنيو (صباح وسراواك)، وصولًا إلى جزر سولو ومينداناو في الفلبين.

  • عُرفت السلطنة بتبنيها المبكر للإسلام، وبدورها في نشر الدين والثقافة الملايوية.
  • كانت تُنافس سلطنة ملقا من حيث الهيبة والتأثير في طرق التجارة البحرية.

لكن بدءًا من القرن السابع عشر، دخلت السلطنة مرحلة من التراجع بسبب:

  1. الانشقاقات الداخلية والصراعات على العرش.
  2. ظهور قوى أوروبية استعمارية أقوى تسليحًا وتنظيمًا.
  3. صعود سلطان جزر سولو كقوة منافسة في بحر سولو.


الاحتلال البريطاني وتفكك السلطنة

  • في القرن التاسع عشر، استعانت بروناي بالبريطانيين لمواجهة التمردات الداخلية والقرصنة.
  • دخل المستعمر البريطاني من خلال شخصية جيمس بروك، المغامر الذي أصبح "راجا سراواك" سنة 1841، ثم استقل تدريجيًا عن سلطنة بروناي.

  • تتابعت التنازلات:

      • 1846: تنازلت بروناي عن مقاطعة لابوان.
      • 1865–1905: فقدت مناطق أخرى لصالح راجا سراواك والبريطانيين.

وبحلول مطلع القرن العشرين، كانت سلطنة بروناي قد تقلصت إلى حجمها الصغير الحالي، وأصبحت حمية بريطانية رسمية عام 1888.


لماذا لم تنضم إلى اتحاد ماليزيا سنة 1963؟

حين قررت بريطانيا دمج مستعمراتها الملايوية (مالايا، صباح، سراواك، وسنغافورة) في اتحاد ماليزيا، طُرحت بروناي كمرشحة طبيعية للانضمام. لكنها رفضت ذلك لأسباب جوهرية:

1. الهوية الملكية والسيادة المطلقة

  • أراد السلطان عمر علي سيف الدين الثالث الحفاظ على سلطته المطلقة، بينما كان اتحاد ماليزيا يتطلب تقليص صلاحيات الحكام لصالح حكومة مركزية.

2. الثروة النفطية

  • اكتُشف النفط في بروناي منذ 1929، ما جعلها تعتمد على مصدر دخل مستقل.
  • خشي السلطان أن تُشارك السلطنة ثروتها مع ولايات ماليزيا الفقيرة نسبيًا.

3. الاضطرابات السياسية

  • وقعت محاولة انقلابية في بروناي عام 1962 (بقيادة الحزب الشعبي)، بدعم غير مباشر من جماعات قومية ضد الاتحاد.
  • خلقت هذه الحادثة توجسًا من دخول كيان فدرالي جديد.

4. العلاقة الخاصة مع بريطانيا

  • فضّلت السلطنة البقاء تحت الحماية البريطانية مع استقلال إداري تدريجي، حفاظًا على استقرارها.


تأخّر الاستقلال الكامل حتى 1984

  • رغم السيطرة البريطانية منذ 1888، تمتع السلطان بدرجة من الحكم الذاتي الداخلي.
  • في 1971، حصلت بروناي على استقلال داخلي كامل، مع بقاء الشؤون الخارجية والدفاع بيد بريطانيا.
  • وفي 1 يناير 1984، أعلنت بروناي استقلالها التام، ورفضت الانضمام لأي تكتل سياسي، بما في ذلك اتحاد ماليزيا.

السلطنة اليوم تحكمها أسرة بلقيه، وتُعد واحدة من أثرى الدول في آسيا، رغم حجمها الصغير، بسبب النفط والغاز.


قراءة في المعنى التاريخي والسياسي

بروناي تُجسّد واحدة من أندر الحالات في جنوب شرق آسيا: كيان تقليدي حافظ على نفسه داخل العاصفة الاستعمارية، وخرج منها دون أن يذوب في مشروع دولة قومية أوسع.
لم تكن رغبة السلطان في السيادة نابعة من عزلة، بل من إدراك عميق لمخاطر الذوبان في مشاريع فوقية قد تفقدها خصوصيتها السياسية والدينية والثقافية.

كما أن نموذج بروناي يُظهر كيف أن الثروة الطبيعية، عندما تُدار بحذر، قد تصبح وسيلة لرفض الإملاءات الخارجية، ولو من جيران يتشاركون الدين واللغة.


وصف الصورة:

صورة واقعية لسلطان بروناي عمر علي سيف الدين الثالث وهو يرتدي اللباس الملكي التقليدي في حفل رسمي خلال الخمسينيات، وخلفه يظهر علم بروناي القديم وعناصر من النخبة البريطانية.

سلسلة: أرخبيل الملايو: حيث يصنع البحر الممالك

أحدث أقدم