
فهناك فقر يُنتَج ويُدار ويُعاد إنتاجه عن قصد، لا بهدف تقليصه، بل بهدف استخدامه كأداة ضبط وتحكم.
في عالم تتكاثر فيه الثروات كما تتسع فيه الفجوات، يصبح الفقر أداة سياسية لا حالة اقتصادية فحسب.
هذه المقالة تفتح باب الأسئلة حول: لماذا يُترك الفقر يتكاثر؟ ومن يستفيد من وجوده؟ وكيف يُستخدم لإعادة تشكيل المجتمع؟
إنها ليست أزمة جيوب، بل أزمة وعي وموقع… ومشروع طويل الأمد.
التفقير: من النتيجة إلى السياسة
في الخطاب العام، يُطرح الفقر كـ"نتيجة":
- فشل السياسات،
- ضعف التنمية،
- تراجع فرص التعليم والعمل…
لكن حين نُمعن النظر، نجد أن الفقر لا يُعالَج جديًا، بل يُدار بما يضمن استمراره ضمن حدود معينة، لأنه مفيد لأطراف كثيرة:
- تُستخدم الفئات الفقيرة ككتلة انتخابية قابلة للشراء.
- يُبرر وجودهم لتعزيز الأمن والسيطرة البوليسية.
- يُنتج سوقًا كاملة للسلع الرخيصة والعمل الهش.
- ويُستثمرون في الخطاب الرسمي كـ"عبء" لتبرير القروض والخصخصة والبرامج الخارجية.
مجتمع خائف… مجتمع سهل التوجيه
أخطر ما في التفقير الممنهج أنه يخلق طبقة واسعة تعيش في الخوف الدائم من الغد:
- هل سأجد طعامًا؟
- هل سيفصلني المدير غدًا؟
- هل أستطيع علاج ابني؟
- هل أجرؤ على الاعتراض؟
هذا الخوف ليس عارضًا… إنه مقصود، لأنه يقتل القدرة على التفكير، وعلى الاحتجاج، وعلى التنظيم.
الفقر هنا ليس فقط حرمانًا من المال، بل من الوقت، والكرامة، والخيال.
إنتاج الفقر الثقافي بالتوازي مع المادي
التفقير لا يعني فقط تراجع الدخل، بل أيضًا:
- تدمير التعليم الحقيقي،
- تسطيح الوعي،
- قطع العلاقة مع التاريخ والمشروع الجماعي،
- ملء الفراغ الثقافي بالمحتوى الرخيص والإلهاء.
هكذا، يُنتج إنسان مشغول بالبقاء، لا بالبناء،
يبحث عن القوت لا الكرامة،
ويغرق في الترفيه الرخيص لينسى واقعه الحقيقي.
اقتصاد يُفقر ليحكم: من النيوليبرالية إلى التهميش
السياسات الاقتصادية الحديثة، خصوصًا النيوليبرالية، لم تُفقر الناس عشوائيًا، بل عبر آليات محددة:
- تقليص الدولة لدورها الاجتماعي.
- خصخصة القطاعات الحيوية وتحويلها إلى ربحية.
- تشجيع العمالة الهشة بلا حماية.
- إغراق الناس في القروض والديون الصغيرة.
- ربط لقمة العيش بولاء سياسي مباشر.
وهكذا، يُعاد تشكيل الاقتصاد ليخدم قلة، بينما تُترك الكثرة تعيش على الحافة، خاضعة لابتزاز مستمر.
مجتمع بلا طبقة وسطى: وصفة للفوضى أو الطغيان
حين تتآكل الطبقة الوسطى، يتحول المجتمع إلى:
- أقلية تملك وتقرر،
- وأكثرية منهكة ومحرومة.
وهنا، يصبح الاختيار أمام النظام الحاكم:
إما القمع لضبط الغضب، أو التنازل الكامل للخارج لضمان البقاء.
وفي الحالتين، يدفع الفقير الثمن، لا لأن صوته ضعيف… بل لأنه لم يعد يُحسب.
الفقر كمانع للنهضة
- لا نهضة مع شعب جائع،
- ولا علم مع طالب يعمل بدوامين،
- ولا وعي مع إعلام يستهزئ بالكرامة.
ويحوّل الأجيال القادمة إلى أحلام مؤجلة… أو ضائعة.
الخاتمة
الفقر ليس مجرد رقم في تقرير، بل نظام خفي يُعيد تشكيل المجتمع كما يُعاد تشكيل الإنسان.
وعلاج الفقر لا يبدأ بالمساعدات، بل بفضح آليات إنتاجه، ومساءلة من يستثمر في استمراره،
ثم بإعادة تعريف الاقتصاد لا كآلة ربح… بل كأداة إنصاف، تحفظ للإنسان حريته وكرامته ومعناه.