
في خضم السياسات الدولية المعقدة، تُبنى التحالفات على دوافع مختلفة، لا تتشابه في طبيعتها ولا في عمقها. وقد يخدع ظاهر التلاقي بين بعض الدول المتحالفة، فيبدو وكأنه ناتج عن قناعة مشتركة أو رؤية موحّدة، بينما هو في الحقيقة قائم على منطق المصالح لا المبادئ، وعلى التقاء مؤقت لا التزام دائم. وهنا تبرز التمييز الحاسم بين الدعم الاستراتيجي والدعم العقائدي، وهو من أهم الفروق التي تُغفل في التحليل السياسي الرائج.
أولًا: ماهو الدعم الاستراتيجي؟
الدعم الاستراتيجي هو تحالف براغماتي ظرفي، يقوم على توافق مصالح لا على تشارك قيم أو رؤى. يُبنى غالبًا بين دول تختلف في الأيديولوجيا أو البنية الثقافية، لكنها ترى في التعاون وسيلة لتعزيز موقعها في التوازنات الدولية.
من سماته:
- مرونة عالية: يمكن أن يتغير أو ينقلب مع تبدل الظروف.
- منفعي الطابع: تُغلب فيه الاعتبارات الأمنية والاقتصادية على المبادئ.
- محكوم بالمصالح الوطنية لا بالولاء لأي طرف.
أمثلته:
-
علاقة الصين وروسيا مع إيران: دعم جزئي لإيران لا ينبع من إيمان بمشروعها الديني أو السياسي، بل من كونها خصمًا لأمريكا وشريكًا اقتصاديًا مهمًا.
-
تحالفات أمريكا مع أنظمة لا ديمقراطية: مثل السعودية أو مصر، حيث لا تُشترط الديمقراطية بل يُشترط فقط "التوافق مع المصالح الأمريكية".
ثانيًا: ما هو الدعم العقائدي؟
أما الدعم العقائدي، فهو تحالف ينبع من قناعة فكرية أو إيمانية أو أيديولوجية، ويقوم على وحدة الهدف والتصور والمصير. وغالبًا ما يكون هذا النوع من التحالفات أقل عددًا، لكنه أكثر صلابة، وأحيانًا أكثر تطرّفًا في الالتزام.
من سماته:
- ثبات نسبي: لا يتغير بسهولة، حتى في ظروف الكلفة العالية.
- يُبنى على مشاعر التضامن والهُوية المشتركة.
- يتحمّل أحيانًا تنازلات مادية من أجل الولاء المبدئي.
أمثلته:
-
علاقة حزب الله بإيران: تحالف عقائدي ديني مذهبي، يحمل رؤية مشتركة للمنطقة، ويُقدَّم فيه الالتزام العقائدي على حساب المصلحة الذاتية أحيانًا.
-
تحالف بعض الحركات الثورية مع قوى شبيهة فكريًا حتى دون مكاسب مادية مباشرة.
ثالثًا: الفرق في السلوك الدولي
يختلف الدعم الاستراتيجي عن الدعم العقائدي في عدة جوانب حاسمة تُحدد طبيعة التحالف وسلوكه:
-
من حيث مصدر التحالف: ينبع الدعم الاستراتيجي من المصالح الظرفية والمكاسب المتبادلة، بينما يقوم الدعم العقائدي على قناعة فكرية أو دينية أو أيديولوجية تُؤسّس لرؤية مشتركة.
-
من حيث ثبات العلاقة: يعتبر الدعم الاستراتيجي هشًا وقابلًا للانهيار عند تغيّر المصالح أو التكاليف، أما العقائدي فغالبًا ما يكون أكثر استقرارًا واستمرارية، خصوصًا حين يرتبط بقضية وجودية أو هوية.
-
من حيث درجة التضحية: لا يتجاوز الدعم الاستراتيجي حدود المنفعة المتوقعة، إذ تُحسب فيه الخسائر والربح بدقة، بينما قد يتضمن الدعم العقائدي تضحيات كبيرة، بل وخسائر مادية، بدافع الالتزام المبدئي.
-
من حيث مرونة الخطاب: يتّسم الدعم الاستراتيجي بمرونة عالية في الخطاب السياسي والإعلامي، حيث يُكيّف حسب الظرف، بينما يلتزم الدعم العقائدي بخطاب موحّد وأقل مرونة، بحكم الالتزام بالمبدأ.
-
من حيث قابلية الانفصال: يسهل الانفصال في التحالفات الاستراتيجية دون تكلفة رمزية أو عاطفية، بينما يُعدّ الانفصال عن التحالف العقائدي أمرًا صعبًا، وقد يُنظر إليه كخيانة لمبادئ أو قضية.
رابعًا: حين يُخلَط الأمر
كثيرًا ما يُظن أن روسيا والصين تقفان مع إيران "ضد الاستكبار العالمي"، بينما الحقيقة أنهما لا تؤمنان بمشروع الثورة الإسلامية، ولا تقبلان بتصديرها. دعمهما لها هو دعم استراتيجي بحت، هدفه موازنة النفوذ الأمريكي، لا مشاركة المشروع الإيراني. وكذلك، حين تتحالف أمريكا مع دول عربية دون ديمقراطية، فهي لا تخون قيمها الليبرالية، بل تؤجّلها لحساب الأولويات الأمنية.
خامسًا: في عالم ما بعد الأيديولوجيا
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، تراجعت التحالفات العقائدية في السياسة الدولية، وبرزت التحالفات الاستراتيجية كالنمط السائد. لم تعد القيم هي الحاكم، بل التوازنات. وهذا يعقّد فهم المواقف الدولية: إذ قد تبدو الدول متحالفة ضد قضية إنسانية عادلة، لا لأنهم ضد العدالة، بل لأن "العدالة ليست جزءًا من حساب المصالح".
خاتمة
فهم الفرق بين الدعم الاستراتيجي والعقائدي هو مفتاح لفهم التفاعلات الدولية الحقيقية. فليس كل من يدعمك مؤمنًا بك، ولا كل من يعارضك كارهًا لك. العالم لا يتحرك فقط بخارطة المبادئ، بل بلعبة المصالح المتغيرة. والتحليل الواعي لا يقع في فخ الخطابات، بل ينظر إلى جذور التحالفات: هل هي قناعة؟ أم حساب؟