الامتحان ليس معيارًا: حين تتحوّل اختبارات الثانوية إلى صنم يصنع الوهم

في كل عام، تُعلَن نتائج الثانوية العامة وسط أجواء هستيرية من التوتر والاحتفالات والدموع.

يتصرّف الجميع — مدارس وأهالٍ وإعلام — كأن هذه الدرجات تمثّل مصيرًا نهائيًا لا رجعة فيه، وأن الطالب قد كُتب له النجاح الأبدي أو السقوط الأبدي من نافذة لا تُفتح إلا مرة.
لكن خلف هذه المشاعر المبالغ فيها، يكمن سؤال خطير لا يُطرح عادة: هل هذه الاختبارات تقيس حقًا الذكاء والكفاءة؟ وهل تستحق أن تكون الحَكم الوحيد على مستقبل الإنسان؟

الجواب بوضوح: لا.


حين يُختَزل الإنسان في رقم

الامتحان النهائي، كما يُمارَس في معظم نظمنا التعليمية، لا يقيس التفكير، ولا الإبداع، ولا المهارات الحقيقية،
بل يقيس فقط قدرة الطالب على الحفظ، وتحمل الضغط، والتكيّف مع نظام رتّب سلفًا كيف يُكرَّم الفائز ويُهمَّش غيره.

وهكذا، يتحوّل العقل إلى مخزن، ويتحوّل الطالب إلى آلة إعادة إنتاج، ويصبح النجاح لا مرآة للذكاء… بل للانضباط في نسق واحد.


كفاءة أم انضباط؟ من يربح في هذا النظام؟

في أغلب الأحيان:

  • من ينجح في هذه الامتحانات هو من أتقن أسلوب النظام: الحفظ، التلخيص، توقيت الإجابة، توقع الأسئلة.
  • وليس بالضرورة من يفكر خارج الصندوق، أو يمتلك مهارات تحليلية، أو لديه رؤية مختلفة.

أما أصحاب الذكاء الفطري، الخيال، الشغف الحقيقي بالمعرفة…
فغالبًا ما يشعرون بالاغتراب داخل هذا النظام، ويُحكم عليهم بالفشل، فقط لأنهم لا يجيدون "اللعبة" بالشروط المفروضة.


بين درجةٍ مصطنعة ومستقبلٍ مسروق

المفارقة المؤلمة أن هذه الدرجات — التي تُنتزع من سياق امتحان واحد، وفي ظروف نفسية مشحونة، وبمعايير تقليدية —
تُستخدم بعد ذلك لتحديد المصير:

  • من سيدخل الطب أو الهندسة أو القانون،
  • ومن سيُقصى نحو كليات لا يريدها،
  • ومن لا يجد له مقعدًا أصلًا.

ولا يُسأل أحد:

  • هل هذا الامتحان يقيس فعلًا الكفاءة الحقيقية؟
  • هل تأخُّر الطالب عن فهم موضوع ما في سنّ معينة يعني أنه لا يستحق فرصة تعليمية عادلة؟
  • وهل معيار "الحفظ في ورقة واحدة" يصلح لصناعة علماء ومهندسين وأطباء ومفكرين؟

الجواب معروف… لكن المنظومة لا تعترف به، لأن الهدف فيها ليس بناء الإنسان، بل فرز الأرقام وتحديد المصير باكرًا بأقل كلفة.


جامعات بلا أبواب... إلا لمن أطاع النظام

هكذا تُقفل الجامعات الجيدة في وجه كثيرين لا لشيء،
إلا لأنهم لم يجيدوا لعبة الامتحان كما أرادها النظام.
ويُدفع بهم إلى كليات لم يختاروها، ولا تناسب مواهبهم،
ويُطلَب منهم أن "يرضوا" لأنهم لم يحققوا الدرجة المطلوبة.

بهذا الشكل، يُصنع الإحباط مبكرًا،
ويُقتل الشغف،
ويُحوَّل التعليم إلى سباق على الأوراق… لا على المعنى.


التشديد المَرَضي على النتائج: هل هو تربوي؟ أم نفسي سياسي؟

حين يتحوّل الامتحان إلى مقياس وحيد للمستقبل، فهذا ليس خطأ تربويًا فقط، بل انعكاس لفلسفة اجتماعية كاملة تقوم على الفرز والتصنيف المبكر.
وكأن النظام يقول:

"نحن لا نرى فيك إلا الدرجة… فإن فزت، لك فرصة الحياة؛ وإن تعثرت، فقد انتهى دورك."

هذا الضغط الهائل، والرهبة المصنوعة، لا يصنع تعليمًا حقيقيًا، بل يصنع أجيالًا قلقة، مهووسة بالعلامات، منفصلة عن المعنى الحقيقي للعلم.


لا أحد يسأل: ماذا بعد النجاح؟ ماذا بعد الفشل؟

كم من "متفوق" دراسيًا دخل الجامعة فاقدًا للشغف، عاجزًا عن التفكير الحر؟
وكم من "راسب" في الامتحان صار لاحقًا مبدعًا أو مفكرًا أو رجل أعمال ناجح؟
النظام لا يرى هذا، لأنه ببساطة لا يهمّه بناء الإنسان، بل فقط ترتيبه في جدول التصنيف.


الامتحان وسيلة لا غاية

الاختبارات — في أصلها — أداة لتقويم الفهم، لا للحكم على القيمة البشرية.
لكن حين تتحول إلى غاية نهائية، وتُحمَّل بما لا تحتمل،
تصبح أداة تدمير صامتة لشخصية الطالب، تزرع فيه الوهم أو الانكسار، بدل أن تكشف له أبواب التعلم والنضج.


الخاتمة

النجاح الحقيقي لا يُقاس بالدرجات، بل بالقدرة على التعلم الذاتي، وعلى التفكير الحر، وعلى تحويل المعرفة إلى أثر.
وما لم يُعاد النظر في هذا النموذج الذي يُقدّس الامتحان ويُهمل الإنسان،
فسنبقى نُخرّج أجيالًا تتقن الحفظ وتخشى الحياة،
وتنقسم مبكرًا إلى فئة تتوهّم النخبة، وفئة تُقصى من البداية.

أحدث أقدم