
أولًا: لماذا لا تدعم الولايات المتحدة إسرائيل علنًا في هذه الحرب؟
رغم أن واشنطن تُعد الحليف الأوثق لإسرائيل منذ تأسيسها، إلا أن موقفها في هذه الحرب اتسم بـالصمت الحذر، والتصريحات العامة التي تدعو إلى "ضبط النفس من جميع الأطراف". هذا الموقف ليس نابعًا من تخلٍ عن إسرائيل، بل من توازن دقيق تحكمه اعتبارات استراتيجية داخلية وخارجية:
1. تجنّب التورط في حرب إقليمية شاملة
دخول أمريكا المباشر في الحرب قد يشعل المنطقة برمتها، ويفجّر جبهات في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويستفز خصومًا كبارًا مثل روسيا والصين. واشنطن لا تريد حربًا واسعة، بل تفضّل أن تبقى الأزمة محدودة، بالوكالة أو على مستوى ضربات تكتيكية.
2. الحفاظ على استقرار سوق الطاقة
أي تدخل أمريكي عسكري مباشر قد يدفع إيران إلى إغلاق مضيق هرمز أو ضرب منشآت خليجية، مما سيرفع أسعار النفط عالميًا بشكل جنوني، وهو ما تخشاه إدارة بايدن – أو ترامب إذا عاد – في سياق التنافس الانتخابي الداخلي.
3. تفادي إحراج الحلفاء العرب
كثير من دول الخليج لا تؤيد علنًا التصعيد ضد إيران، رغم رفضها لنفوذها. التدخل الأمريكي الصريح إلى جانب إسرائيل قد يضعهم في موقف حرج داخليًا وشعبيًا، ويفجّر حساسيات إقليمية، خاصة في ظل موجات تطبيع هشة ومتوترة.
4. الخوف من تصاعد الدعم الشعبي لإيران في المنطقة
رغم عداء كثير من العرب للنظام الإيراني، إلا أن رؤية طهران تتعرض لضربات أمريكية مباشرة لصالح إسرائيل قد تعيد تعبئة الشارع العربي والإسلامي حول "العدو المشترك"، وهو ما تحاول أمريكا تجنبه.
ثانيًا: ما الذي تفعله أمريكا فعليًا خلف الكواليس؟
رغم الغياب الظاهري، تقدم الولايات المتحدة دعمًا استخباراتيًا وتقنيًا ولوجستيًا مكثفًا لإسرائيل، يشمل:
- صور أقمار صناعية فورية لتحركات إيرانية.
- تزويد بمنظومات دفاعية وصواريخ اعتراض متطورة.
- دعم لوجستي عبر قواعدها في الخليج والأردن.
- تنسيق مباشر في غرفة عمليات مشتركة (مُعلن عنها جزئيًا في تل أبيب).
لكنها تُبقي كل ذلك دون إعلان رسمي، وتُقدّمه بغطاء "دفاعي" لا "هجومي"، لتجنّب كسر السقف السياسي الدولي.
ثالثًا: ما التوجّه الاستراتيجي الأمريكي القادم؟
الولايات المتحدة تتحرك وفق ثلاث مسارات استراتيجية متوازية:
1. احتواء الحرب وعدم انفجارها
- الضغوط الدبلوماسية على إسرائيل لعدم توسيع الضربات.
- رسائل قنوات خلفية إلى طهران (عبر وسطاء مثل عمان وقطر) لتحذيرها من الخطوط الحمراء.
2. استخدام الحرب لتحسين شروط التفاوض
- واشنطن تستفيد من ضغط إسرائيل لتعيد إيران إلى طاولة المفاوضات النووية بشروط أقسى.
- الهدف هو استنزاف إيران استراتيجيًا دون إسقاط النظام.
3. التهيئة لسيناريو الردع الموسّع
- في حال تجاوزت إيران خطوطًا معينة (مثل ضرب منشآت أمريكية أو الخليج)، قد تتحرك أمريكا عبر ضربات موضعية مركّزة.
- لكنها تسعى لتجنّب "احتلال بري" أو حرب طويلة الأمد بأي ثمن.
رابعًا: السيناريوهات المحتملة ونتائجها على الدور الأمريكي
السيناريو الأول: استمرار الحرب المحدودة
- النتيجة: أمريكا تظل داعمًا خلفيًا، وتعزز دورها كوسيط دولي.
- الفائدة: استنزاف لإيران، دون تورط عسكري.
السيناريو الثاني: انفجار الحرب إقليميًا
- النتيجة: تدخل عسكري أمريكي محدود – ضغوط اقتصادية ضخمة – احتمال توسيع الانتشار العسكري بالخليج.
- الخطر: ردود فعل دولية معاكسة، وارتباك داخل الناتو.
السيناريو الثالث: انهيار إيران داخليًا
- النتيجة: فوضى إقليمية قد تعيد تشكيل المنطقة – لكن أمريكا تخشى من فراغ أمني بديل أسوأ.
- الفائدة: نهاية مشروع التوسع الإيراني، لكنها غير مضمونة.
السيناريو الرابع: تدخل مباشر أمريكي علني
- النتيجة: مواجهة مع روسيا والصين عبر الوكلاء، وصدام رمزي عالمي.
- الخطر: استقطاب عالمي جديد في ظل نظام دولي هش.
خامسًا: ماذا لو دخلت أمريكا رسميًا الحرب؟
دور القوى الكبرى: الصين وروسيا بين الصمت والتحدي
في حال قررت الولايات المتحدة الانخراط العسكري العلني والمباشر في الحرب إلى جانب إسرائيل، فإن ذلك سيُحدِث زلزالًا جيواستراتيجيًا لن يقتصر على الشرق الأوسط، بل سيمتد إلى بنية النظام العالمي بأسره. وهنا يظهر دور القوى الأخرى، وتحديدًا الصين وروسيا، باعتبارهما الطرفين الأهم في معادلة التوازن الدولي.
● روسيا: الرد غير المباشر
رغم انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا، فإنها لن تسمح بانفراد أمريكي تام في الساحة الإيرانية، لسببين رئيسيين:
- إيران حليف استراتيجي لموسكو في وجه الناتو، وإضعافها يُضعف محور موسكو – طهران – دمشق.
- الخوف من سقوط إيران في يد الغرب، مما يحوّلها إلى قاعدة أمريكية مستقبلية على خاصرة روسيا الجنوبية.
لكن تدخل روسيا سيكون غير مباشر، عبر:
- تزويد إيران بمنظومات متقدمة (كاسحة للرادارات، دفاع جوي).
- فتح جبهات جديدة بالوكالة (في أوكرانيا أو القوقاز لتشتيت واشنطن).
- استخدام الفيتو في مجلس الأمن وقيادة خطاب إعلامي مضاد للتدخل الأمريكي.
● الصين: التحرك الاقتصادي والرمزي
الصين تتحرّك بأسلوب أكثر حذرًا وبراغماتية. لكنها ستعتبر الحرب العلنية الأمريكية:
- تهديدًا لمصالحها النفطية والتجارية في الخليج وإيران.
- انكشافًا استراتيجيًا لمشروع الحزام والطريق في منطقة تعتبرها صينية النفوذ بهدوء.
لن تشارك عسكريًا، لكنّها قد:
- تستخدم نفوذها المالي لإفشال العقوبات الجديدة.
- ترفع مستوى دعمها لإيران بالوقود والعملة الصعبة.
- ترفع حدة التوتر شرق آسيا (خصوصًا في تايوان أو بحر الصين الجنوبي) كرسالة ضغط غير مباشرة.
السيناريو الأخطر:
إذا شعرت روسيا أو الصين أن الهدف الأمريكي يتجاوز مجرد حماية إسرائيل، إلى إعادة رسم خريطة المنطقة أو إسقاط النظام الإيراني، فقد تشتركان في تصعيد عالمي لا يكون بالضرورة عسكريًا مباشرًا، بل عبر "حرب باردة مصغّرة" تمتد إلى أوكرانيا وتايوان والاقتصاد العالمي.
خلاصة
الولايات المتحدة تتعامل مع حرب إيران وإسرائيل بمنطق "الإمساك بالعصا من الوسط": تدعم إسرائيل تقنيًا، وتردع إيران سرًا، وتدعو للتهدئة علنًا. إنها حرب ليست حربها… لكنها لن تسمح بخسارة إسرائيل فيها. أما ما إذا كانت هذه المعادلة ستصمد، فذلك رهين بتطوّرات الأيام القادمة، التي قد تفرض على واشنطن خيارات أكثر حدة… أو أكثر انكفاء.