
لا كل ضحية تُبكى… من يُقرر من نرى؟
ليس كل من يموت يُعرض. وليس كل من يُعرض يُراد التعاطف معه. بل ثمة نظام عالمي يحكم من تُنقل مأساته للعالم، ومن يُدفن اسمه تحت الصمت.
حين يُعرض طفل فلسطيني يُمزقه القصف، يُقال إنه "نتيجة لصراع معقّد". لكن حين يُعرض طفل إسرائيلي قتيل، تُقال الأسماء، وتُستحضر العائلة، وتُرفق الخلفية، وتُبنى السردية.
في اليمن، مات الآلاف من الأطفال بسبب المجاعة الناتجة عن الحصار، ولم تظهر صورة واحدة تهزّ ضمير العالم كما فعلت صورة الطفل السوري الغريق "آلان كردي". لماذا؟ لأن "آلان" كان بوابة لفتح ملف اللاجئين في أوروبا، في وقت كانت فيه الحكومات بحاجة إلى تبرير سياستها الجديدة. التعاطف هنا لم يكن مجانيًا.
الحزن المُنتقى: حين تُصبح المأساة قابلة للتسويق
في الحروب الكبرى، لا تُعرض الصورة لأنها مؤثرة، بل لأنها مناسبة. الإعلام لا يلتقط الألم بل ينتقيه. يصنع منه قصة جاهزة: "ضحية تستحق"، و"قاتل واضح"، ثم يفتح المساحة لتصعيد سياسي أو تبرير عسكري.
مشاهد "الأسلحة الكيميائية في دوما" بسوريا مثلًا، جاءت كقنبلة إعلامية قبل أن تُقصف المدينة فعليًا. تم بناء القصة مسبقًا، واستخدام التعاطف لتهيئة الرأي العام العالمي لضربة عسكرية تحت شعار "الرد الأخلاقي".
العاطفة الموجّهة: من البكاء إلى التحريض
حين يُبكى على ضحية ما، ويتكرر عرضها، يتكوّن وعي شعبي حاد، يبدأ من التعاطف، ثم يتحول إلى كراهية للفاعل، ثم يطالب الناس بـ"الرد". هكذا تتحول الدموع إلى رصاص، والتعاطف إلى تحريض، خصوصًا عندما تُركب المشاهد على خلفية موسيقية، وتُرفق بعناوين صارخة مثل "جريمة ضد الإنسانية" دون تحقيق مستقل.
العاطفة هنا لم تعد إنسانية، بل وُضعت على سكة محددة: سكة تصنع مشروعية الضربة القادمة.
الضحية التي تُخيف.. تُخفى!
لكن ماذا عن الضحية التي تُربك السردية؟ ماذا عن المدنيين الذين تقتلهم دولة حليفة؟ ماذا عن الكارثة الإنسانية التي تقع في مكان لا يخدم الحديث عنه؟ هؤلاء لا يُعرضون. أو يُعرضون بخجل. أو يُختزلون في رقم سريع.
لا صور لهم. لا أسماء. لا قصة. لا مشاعر.
لأن الحديث عنهم قد يُحرج طرفًا نافذًا، أو يُضعف التأييد السياسي المطلوب.
ما العمل؟ استعادة الوعي بدل الاستسلام للعاطفة
في زمن تُستثمر فيه المشاعر، يصبح التفاعل العاطفي البريء سلاحًا يُستخدم ضدنا. الحل لا يكون بإلغاء العاطفة، بل بترشيدها. أن نسأل دائمًا: من عرض هذه الصورة؟ لماذا الآن؟ أين الضحية الأخرى؟ وما السياق؟
أن نُقاوم أن نكون "دمى مشاعر"، تُحرّكها الجهات التي تملك أدوات البث والقصّ والسرد.
فمن لا يملك سرديته، سيبكي على من يُعرض له، ويكره من يُشار إليه، دون أن يعلم من القاتل الحقيقي.
خاتمة
ليست كل صورة تُعرض دليلًا على الحقيقة، ولا كل دمعة تعني أننا في صف الضحية. أحيانًا، تُستخدم آلام الناس كقنابل معنوية لشرعنة القصف، أو شيطنة طرف، أو تمرير صفقة. في زمن الحروب المعاصرة، أصبح "من يستحق البكاء" قرارًا سياسيًا أكثر منه وجدانًا إنسانيًا. وهنا، تكون استعادة الوعي النقدي أهم من آلاف الدموع.