
وهكذا، يتضاءل الوجود شيئًا فشيئًا، ليذوب في ومضة... تُعرض، تُقيَّم، ثم تُنسى.
الحياة وقد أصبحت استوديو مفتوح
لم يعد البيت بيتًا، بل خلفية للظهور. لم يعد السفر مغامرةً داخل الذات، بل سباقًا لإنتاج محتوى. لم تعد العلاقات روابط عميقة، بل مشاهد صورية تقاس بعدد "الإعجابات".
أصبح الإنسان ممثلًا في سيرك يومي، يؤدي ذاته باستمرار. يلتقط اللحظة، لا ليحتفظ بها، بل ليشاركها مع جمهور لا يعرفه، ولا يعرفه.
وبدل أن تُوثّق الصورة الحياة، أصبحت الصورة تُنتج الحياة.
عندما يُستبدل الشعور باللقطة
من أكبر الخسائر التي تُخلّفها ثقافة اللقطة، أنها لا تكتفي بإفساد ذوقنا، بل تُصيب وعينا نفسه بالعطب.
في اللحظات المفصلية: النجاح، الحب، الحزن، التأمل... يتقدّم الهاتف. ليس لتوثيق الذكرى، بل لإثبات الوجود.
وهنا يحدث الانفصال: بين ما نعيشه وما نُظهره. بين ما نشعر به، وما نؤديه.
فنحن لا نحزن كما نشعر، بل كما يتوقّع الآخرون منّا أن نحزن. لا نحتفل كما نحب، بل كما يُناسب مشاركته.
الذوق.. صار يُبرمج لا يُربّى
من كان يُعلّمنا الجمال؟ كان الذوق يُبنى على المطالعة، على التأمل، على التجربة. أما اليوم، فمصدره هو الشائع.
نحب ما يحبونه، نضحك كما يضحكون، نختار زاوية التصوير التي تُمجّدنا كما يُمجَّد الآخرون.
صار الجمال استنساخًا. والتميز تكرارًا. والحرية تقليدًا لمن حاز "أعلى تفاعل".
لا وجود إلا لمن يُعرض
أخطر ما في هذه الثقافة، أنها تؤسّس لوهمٍ وجودي: أنك إن لم تُرَ، فأنت غير موجود.
إن لم تصور اللحظة، فهي لم تحدث. إن لم توثق ابتسامتك، فأنت لست سعيدًا. إن لم تُظهر حبك، فأنت لا تحب.
فقد الإنسان حميميته، وفقد معها صدقه، وصار يرى نفسه بعيون الآخرين، لا بمرآة داخله.
تمثيل الذات… بدل عيشها
ثقافة اللقطة تُعيد تشكيل الإنسان: من ذاتٍ حقيقية، إلى صورةٍ مُنتجة.
إنه يُمثّل ذاته باستمرار. يحذف الزوايا القبيحة، يُعدّل الإضاءة، ينتقي اللحظة "المثالية".
لكن أيُّ كائن هذا الذي لا يُرى منه إلا لحظة "مثالية"؟
وأيّ حياة هذه التي تخشى من العادي، من العفوي، من الحقيقي؟
خاتمة
في زمنٍ صار فيه كل شيء قابلاً للنشر، أصبح العيش بلا تصوير فعل تمرّد. أن تحتفظ بلحظتك لنفسك، أن تفرح دون جمهور، أن تحزن دون منشور، أن تحب في الخفاء... هو أعظم مقاومةٍ لثقافة السطح.
فليست المشكلة أن تُصوّر، بل أن تتوقّف عن أن تكون، إذا لم تُصوّر.