هل تُشكّل الحرب وعي الشعوب؟ كيف يُصنع الاصطفاف الشعبي بين "الحق" و"الواقع"؟

حين تنفجر الحروب، لا يكون ميدانها محصورًا في الأرض والنار فقط، بل تُفتح جبهات أخرى أكثر عمقًا وأشدّ تأثيرًا: جبهة الوعي. في هذه الجبهة، لا تُستخدم الطائرات والصواريخ، بل تُستخدم الصور والعبارات، وتُضرب العقول قبل أن تُضرب المدن. وهكذا، تصبح الشعوب طرفًا في المعركة، إما اصطفافًا تلقائيًا بحكم المشاعر، أو انجذابًا مدروسًا بحكم الإعلام، أو تماهٍ مخادع بحكم سرديات القوة.

الحرب لا تصنع فقط المآسي، بل تصنع الانتماءات أيضًا

حين يتابع إنسانٌ عاديٌّ – من أي مكان في العالم – مشاهد الدمار في طهران، أو صرخات الجرحى في تل أبيب، فإنه ينفعل، يتألم، وربما يغضب. لكن هذه المشاعر لا تبقى طافية، بل تتجذر في شكل انحياز: من الضحية؟ من المجرم؟ من البادئ؟ ومن يستحق "الحق"؟ وهنا تبدأ تشكّلات الوعي.
ليس الوعي الذي يزن الوقائع والمعطيات ببرود، بل الوعي الذي يُعاد تكوينه تحت ضغط الصورة، وجرعة الانتقائية، وخلفية القيم الجاهزة.

الاصطفاف العاطفي: من المأساة إلى الهوية

يُلاحظ في أغلب الحروب أن الجمهور العالمي لا يصطفّ بالضرورة حسب الوقائع الموضوعية، بل حسب البوصلة الأخلاقية التي يتصورها. ومتى انطبعت صورة الضحية في وعيه، صارت كل ردّة فعل من الطرف الآخر "جريمة"، حتى إن كانت دفاعًا أو ردًّا.
هذا ما يجعل الحروب الحديثة لا تنقسم إلى "منتصر ومهزوم" فقط، بل إلى "محبوب ومكروه"، و"بريء ومدان"، وهي ثنائية يُعاد إنتاجها إعلاميًا، وتُثبَّت جماهيريًا، بغض النظر عن الوقائع المعقدة.

الإعلام: القائد السريّ لتشكيل الصفوف

لا يمكن الحديث عن وعي الحرب دون الحديث عن الإعلام بوصفه اللاعب الأخطر. فالإعلام لا يعرض فقط ما يحدث، بل يختار كيف يعرض، ومتى يعرض، وماذا يُخفي.
تُبنى القصص بحساب دقيق: المدني الذي يُقتَل في دولة ما يصبح "مواطنًا مسالمًا"، بينما المدني في الدولة الأخرى يُختزل في جملة غامضة مثل "قُتل خلال تبادل لإطلاق النار".
بهذا الشكل، يُعاد تشكيل المشهد العالمي للرأي العام، وتُرسَم ملامح "الحق" و"الباطل" ليس وفق القانون الدولي، بل وفق من يملك أدوات السرد الأقوى.

الحق لا يُرَى دائمًا من الصور

المفارقة المأساوية أن أغلب الناس، حتى المثقفين، يتعاملون مع الحرب بوصفها مشهدًا بصريًا لا أكثر. يغيب عنهم التاريخ، والمصالح، والعدالة الغائبة، والعلاقات الدولية، ومعايير القانون المزدوجة.
وإذا غاب التحليل العميق، حضر الشعور السريع، وصار الاصطفاف تلقائيًا: من أحزننا أكثر، فنحن معه. ومن خوّفنا أكثر، فنحن ضده.
بهذا المعنى، يصبح الوعي أداةً تُعيد إنتاج الواقع الظالم، لا فضحه.

حين تسبق الحرب الفهم

في زمن السرعة واللقطة، لم تعد الشعوب تملك وقتًا للفهم، بل فقط للحكم. لم يعد السؤال: ما خلفيات الحرب؟ بل صار السؤال: مع من يجب أن نتعاطف؟ وهذا التحوّل يجعل من الحرب أداة لإعادة تشكيل الخرائط الشعورية، قبل أن ترسم الحدود على الأرض.
وهنا تبرز الحاجة الكبرى: أن نعيد إحياء الوعي النقدي، القادر على رؤية ما وراء المشهد، وأن نستعيد سؤال الحقيقة بدل الانزلاق في سؤال الانفعال.


خاتمة
الحرب ليست فقط ما يحدث هناك، بل ما يحدث في داخلنا نحن أيضًا. وإن كنا لا نملك وقف المدافع، فبوسعنا أن نوقف سيل التلقّي الغبي، وأن نبني موقفًا أخلاقيًا لا يكتفي بالتعاطف اللحظي، بل يُعيد التفكير في العالم، في السرد، في الحق، وفي الكرامة التي يحق لكل إنسان أن يحيا بها… حتى وسط الدمار.

*
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال