لكن لماذا أقدمت طهران على هذه الخطوة غير المسبوقة؟ ولماذا اختارت قطر بالذات، رغم أنها من بين الدول الخليجية التي تحتفظ بعلاقات أقل عداءً مع إيران؟ وهل كانت الضربة بداية تصعيد شامل، أم رسالة مدروسة بأعصاب باردة؟
قراءة في الحدث: ردّ محسوب أم مقامرة؟
من الناحية التكتيكية، كانت الضربة الإيرانية جزءًا من ردّ مباشر على عملية عسكرية أمريكية كُشف عنها لاحقًا تحت اسم مطرقة منتصف الليل، وهي غارة خاطفة استهدفت منشآت نووية وصاروخية داخل إيران. الرسالة الأمريكية كانت: "لن نسمح لكم بالوصول إلى العتبة النووية". والرد الإيراني كان: "وجودكم في الخليج ليس محصنًا".
غير أن طبيعة الضربة الإيرانية تثير تساؤلات أعمق من مجرد الرد الفوري:
-
لماذا لم تُستهدف قاعدة في العراق، حيث النفوذ الإيراني أكبر والمخاطرة أقل؟
-
لماذا لم تُصاحب الضربة تصريحات تهديدية كبيرة أو إعلان حرب إعلامي؟
الجواب الأقرب: إيران أرادت تصدير الخطر الأميركي إلى محيطه الخليجي. وهي معادلة مقلقة: كلما ازداد الضغط الأمريكي على إيران، ازداد خطر امتداد النيران إلى حلفاء واشنطن في الخليج. إنها ليست سياسة الأرض المحروقة، بل سياسة "الأرض المشتركة المحروقة": إذا احترقت، فليحترق الجميع.
قطر: الساحة الرمزية
اختيار قطر يحمل أبعادًا تتجاوز الجغرافيا. فمن جهة، هي الدولة الخليجية التي تستضيف أكبر قاعدة أمريكية، ومن جهة أخرى، تُعد في نظر طهران دولة أكثر استقلالًا نسبيًا في سياساتها مقارنة بجيرانها. ضرب قاعدة العديد يعني أن إيران لم تعد تميز بين واشنطن والدوحة إذا تعلق الأمر بالوجود العسكري الأمريكي.
لكن المفارقة أن الضربة لم تُسفر عن إصابات، وأشارت تقارير إلى أن إيران مررت إشارات تحذيرية غير مباشرة قبل التنفيذ، ما يوحي أن الهدف لم يكن التدمير بل ترسيخ معادلة جديدة: إن وُجِّهت الضربات إلى طهران، فالرد لن يكون فقط في العراق أو سوريا، بل في العمق الخليجي.
معادلة جديدة في الخليج
على مدى سنوات، راكمت إيران أدوات ردع غير متماثلة: من وكلاء في العراق ولبنان واليمن، إلى ترسانة صواريخ دقيقة ومتوسطة المدى. لكن استهداف قاعدة أمريكية خارج مناطق الاشتباك التقليدية ينقل المواجهة إلى نطاق جيوسياسي مختلف.
- لم تعد إيران في موقع المدافع داخل حدودها، بل في موقع من يعيد تعريف مسرح العمليات.
- لم يعد الخليج منطقة ضغط على إيران فقط، بل صار ساحة ضغط من إيران على واشنطن وحلفائها.
هذا التحول يعني أن كل وجود عسكري أمريكي في الخليج صار رهينة للردع الإيراني، لا مجرد منصة للهجوم على إيران. فهل تغيرت قواعد الاشتباك فعلاً؟
الإعلام الغربي وتغييب الرسائل الحقيقية
رغم خطورة الحدث، تعاملت وسائل الإعلام الغربية معه كـ"واقعة صاروخية عابرة"، تكررت في العراق وسوريا. لكن تغييب البعد الاستراتيجي للهجوم هو نموذج مكرر للتضليل الإعلامي: إخفاء التحولات النوعية في ميزان الردع، والتركيز على حجم الأضرار فقط.
هذا التبسيط المتعمد يجعل الرأي العام الأمريكي والغربي غير مدرك لحقيقة التآكل التدريجي لهيبة الردع الأمريكي في المنطقة، ويُعيد تقديم إيران كفاعل متهور بدلاً من فاعل استراتيجي يدير معادلات الضغط المتبادل بذكاء.
الخلاصة:
قصف قاعدة العديد لم يكن إعلان حرب، بل إعادة تعريف للخرائط الأمنية في الخليج. إيران لا تقول فقط "سنرد"، بل تقول: "ردّنا سيكون حيث لا تتوقعون، وبما لا يمكن تجاهله".
الضربة لم تكن رسالة إلى واشنطن فقط، بل إلى العواصم الخليجية أيضًا: الوجود الأمريكي على أرضكم يجعلكم في قلب المعركة، شئتم أم أبيتم.
إنها لحظة فارقة، لا بحجم الانفجار، بل بموقعه ودلالته.