
منذ تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، لم تكن إسرائيل مجرد حليف للولايات المتحدة، بل مشروعًا استراتيجيًا مدعومًا ماليًا، سياسيًا، وعسكريًا بلا حدود. خُصصت لها مئات المليارات، ووضعت واشنطن نفوذها الدولي في خدمتها، بل خاضت حروبًا دبلوماسية كاملة لحمايتها من المحاسبة.
لكن بعد ثمانين عامًا من هذا الاستثمار الثقيل، يبدو أن واشنطن بدأت تدفع ثمن خيارها التاريخي. فإسرائيل لم تعد أداة قوة، بل عبئًا استراتيجيًا ينهكها سياسيًا، ويشوّه صورتها الأخلاقية، ويعطّل طموحاتها الكبرى في الشرق الأوسط.
أولًا: الحليف المُكلف بلا عائد استراتيجي
منذ السبعينيات، بلغ الدعم الأميركي المباشر لإسرائيل مستويات قياسية، شملت مساعدات عسكرية سنوية ثابتة، ودعمًا غير مشروط في مجلس الأمن، وحتى تغطية مالية لأزمات إسرائيل الداخلية.
لكن في المقابل، لم تستطع إسرائيل أن تحقق للولايات المتحدة الأهداف الكبرى التي راهنت عليها واشنطن، ومنها:
- فرض شرق أوسط مستقر يخضع للهيمنة الأميركية،
- إنهاء القضية الفلسطينية و"تطبيع" وجود إسرائيل في المنطقة بالكامل،
- تحجيم إيران وإسكات المقاومة،
- منع دخول قوى منافسة كروسيا والصين إلى المنطقة.
كل هذه الأهداف لم تتحقق، رغم أن إسرائيل كانت محور الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط لعقود.
ثانيًا: إسرائيل تُشعل الأزمات ولا تُطفئها
الرهان الأميركي على إسرائيل بُني على فرضية أنها قادرة على ضبط المنطقة. لكن الذي حدث هو العكس:
كلما تدخلت إسرائيل، اشتعلت المنطقة أكثر.
- من حروب لبنان إلى اجتياحات غزة،
- من استهداف إيران إلى التحريض على التطبيع،
- من تسليح الانقسام إلى تغذية الفوضى، إسرائيل لم تكن لاعب استقرار، بل لاعب تفجير.
والنتيجة؟
المنطقة اليوم في حالة استقطاب دائم، وواشنطن تواجه تداعيات كل أزمة أشعلتها إسرائيل، سواء في شكل احتجاجات دولية، أو تراجع نفوذ، أو صعوبة في بناء تحالفات جديدة.
ثالثًا: صورة أمريكا تنهار بسبب إسرائيل
ربما أكثر ما تخسره واشنطن اليوم بسبب دعمها لإسرائيل هو صورتها الأخلاقية عالميًا.
فالعالم يرى أمريكا شريكة في جرائم الاحتلال:
- تُسلّح القاتل،
- وتمنع محاسبته،
- وتكافئه سياسيًا واقتصاديًا.
ومع تنامي وسائل الإعلام البديلة، وصعود شبكات النشطاء حول العالم، لم يعد ممكناً إخفاء الحقيقة:
أمريكا تحمي كيانًا يمارس الفصل العنصري، ويقصف المدنيين، وينتهك القانون الدولي علنًا.
هذا التورط بدأ يُفقد واشنطن شرعيتها، خاصة بين الأجيال الشابة، والمجتمعات الملونة، بل وحتى داخل الجامعات الأميركية نفسها.
رابعًا: إسرائيل ترفض حتى الانصياع
المفارقة أن إسرائيل، رغم هذا الدعم غير المشروط، ترفض أن تكون تابعة بالكامل للقرار الأميركي.
بل تتعامل بندّية، وابتزاز دائم.
- تُحرج واشنطن أمام العالم كما حصل في غزة،
- ترفض المبادرات الأميركية،
- تهاجم الإدارة الأميركية داخليًا عبر اللوبيات،
- وتبتزها بملف الانتخابات والدعم اليهودي داخل الحزبين.
والنتيجة؟
تحولت العلاقة من شراكة إلى عبودية من طرف واحد: أمريكا تُعطي بلا مقابل، وإسرائيل تُحرجها، وتُحملها وزرًا أخلاقيًا متزايدًا.
خامسًا: ماذا حققت أمريكا بعد 80 سنة من الدعم؟
لنسأل السؤال الأهم:
بعد ثمانين عامًا من التمويل والتغطية والحروب والتحالفات..
هل أصبحت أمريكا أكثر استقرارًا في المنطقة؟
هل كسبت احترام الشعوب؟
هل استطاعت ردع خصومها؟
الإجابة باختصار: لا.
بل تحوّلت إسرائيل إلى نقطة ضعف استراتيجية:
- تُغذّي كراهية الشعوب العربية لأمريكا،
- تفتح أبواب النفوذ الإيراني والروسي،
- وتدفع حلفاء أمريكا في المنطقة إلى مراجعة تحالفاتهم.
سادسًا: الرأي العام العالمي ينقلب على إسرائيل.. ويحرج داعميها
من أكثر التحولات الاستراتيجية التي لم تكن في حسبان صناع القرار في واشنطن وتل أبيب، هو الانقلاب العميق في الرأي العام العالمي.
فبعد عقود من احتكار الرواية عبر الإعلام الغربي، بدأت صورة إسرائيل كـ"ضحية" تتآكل، لتحل محلها صورة أخرى أكثر واقعية: قوة محتلة تمارس الفصل العنصري وترتكب جرائم حرب ممنهجة ضد المدنيين.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل بفعل مشاهد القصف، وشهادات الضحايا، وحملات التضامن العالمية التي لم تعد حكرًا على النخب، بل صارت موجة شعبية عابرة للقارات.
- في أمريكا اللاتينية، يُنظر إلى إسرائيل كدولة استعمارية عنصرية.
- في أوروبا، بدأت الاحتجاجات تضغط على حكومات ساهمت في تسليحها.
- وفي الجامعات الأميركية والبريطانية، صار دعم فلسطين معيارًا أخلاقيًا للوعي السياسي الجديد.
أما حكومات الغرب، فباتت مواقفها مكشوفة أخلاقيًا: تدعم دولة متهمة علنًا بارتكاب جرائم حرب. وهو ما أدخلها في أزمة خطاب داخلي، وأحرج النخب السياسية أمام جمهورها.
واشنطن، في ظل هذا التحول، لم تعد قادرة على تبرير دعمها غير المشروط لإسرائيل، إلا بمنطق المصالح الباردة. لكن حتى هذا المنطق بدأ يفقد شرعيته، لأن الحليف الذي يحرق نفسه على الهواء مباشرة، لا يمكن الدفاع عنه طويلاً.
الخاتمة: الحليف الذي تقوده نحو الهاوية
إسرائيل لم تعد ورقة رابحة. لقد تحولت إلى عبء.
فهي تستهلك من الرصيد الأميركي أكثر مما تضيف، وتعمّق العزلة الأميركية عالميًا، وتفشل في تحقيق المهام التي وُكلت لها منذ البداية.
وما لم تعِ واشنطن أن تحالفها مع إسرائيل بات خطرًا استراتيجيًا لا أداة نفوذ، فإنها ستدفع الثمن باهظًا في مستقبل قريب، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في موقعها الدولي كله.
فالاستثمار السياسي إذا فشل ثمانين عامًا، فقد حان وقت إعادة الحسابات.