كيف نقرأ الماضي كي نفهم الحاضر: الذاكرة الجمعية والإعلام : إعادة تدوير التاريخ لحساب الرواية الرسمية

 

الذاكرة الجمعية والإعلام: إعادة تدوير التاريخ لحساب الرواية الرسمية

الذاكرة الجمعية ليست مجرد خزان من الأحداث المحفوظة في عقول الناس، بل هي نتاج تراكمي لصناعة سردية موجهة، غالبًا ما تُهندسها المؤسسات الإعلامية والتعليمية والسياسية، بما يخدم الرؤية الرسمية للواقع. إنها ليست ما نتذكّره، بل ما يُراد لنا أن نتذكّره.

في هذا السياق، يلعب الإعلام دورًا محوريًا في إعادة تدوير التاريخ، أي في استحضار أحداث منتقاة من الماضي، تُعرض بطريقة درامية أو رمزية لتغذية خطاب الحاضر. ويتم ذلك في نشرات الأخبار، وفي الوثائقيات، والمسلسلات التاريخية، والخطب السياسية، وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتحول الذاكرة إلى أداة للتهييج أو التخدير.

حين يُراد بث مشاعر الوطنية، يُستدعى "الماضي المجيد". وحين يُراد تبرير القمع، يُستدعى "خطر الفتنة" التاريخية. وحين يُراد تمرير صفقة سياسية، يُستعاد "دروس الانقسام". هكذا يُنتقى من التاريخ ما يخدم الغرض الآني، ويُقصى ما قد يوقظ الأسئلة. والنتيجة: ذاكرة انتقائية، غير متوازنة، تستجيب للتحكم لا للوعي.

هذا النمط من التلاعب ليس محصورًا في الأنظمة المستبدة فقط، بل هو سمة عامة للخطابات الإعلامية التي تسعى للهيمنة على الخيال الجمعي. إذ يُعاد إنتاج الشخصيات التاريخية كرموز مطلقة (إما ملائكة أو شياطين)، وتُسرد الأحداث بلغة تبسيطية، تخفي التعقيد وتُلغِي التعدد. وهنا تفقد الذاكرة الجمعية طابعها النقدي، وتتحول إلى وعاء أيديولوجي جامد.

الأخطر من ذلك أن هذه الذاكرة تُقدَّم للأجيال الجديدة على أنها "حقائق ثابتة"، تُلقّن منذ الطفولة في المدارس، وتُكرّر في المناهج، وتُعزَّز بالصور والمناسبات والاحتفالات. وهكذا تنمو أجيال لا تمتلك أدوات تفكيك الرواية التاريخية، بل تكرّرها كأناشيد.

حين تتحول الذاكرة الجمعية إلى مجرد أداة في يد الإعلام، فإنها لا تُنتج وعيًا بالتاريخ، بل تُعيد تدوير الجهل به. ولهذا، لا بد من الخروج من أسر "التاريخ المُعاد إنتاجه"، نحو قراءة نقدية تضع الإعلام تحت المجهر، وتسأل: لماذا تم تسليط الضوء على هذه الحقبة؟ ولماذا تم إغفال تلك؟ وما الهدف من تكرار هذه القصة دون سواها؟

إن تفكيك العلاقة بين الإعلام والذاكرة الجمعية ليس ترفًا معرفيًا، بل هو شرط لبناء وعي تاريخي ناضج، يُفرّق بين الحقيقة والدعاية، وبين الذكرى والهوس، وبين الرواية والتأويل.

عودة إلى: القائمة الرئيسية

أحدث أقدم