لحظة التأسيس: كيف تُختلق "البدايات" لتبرير النهايات؟
لكل خطاب سلطوي "لحظة تأسيس"، يرويها كمنبع طهارة، وبداية مُقدّسة لا يأتيها الباطل. تُصاغ هذه اللحظة بطريقة أسطورية، تُقدَّم للجمهور كأصلٍ لا يجوز مسّه، وكأن ما بعدها هو امتداد طبيعي لها، وما يُخالفها انحراف عن المسار. بهذا المنطق، يتم هندسة التاريخ لا كتسلسل معقّد، بل كخط مستقيم يبدأ من "بداية شرعية" وينتهي بـ"وضع حتمي".
تُستخدم "لحظة التأسيس" كأداة في تزوير الوعي، إذ تُوظَّف لتبرير الحاضر من خلال اختلاق ماضٍ مثالي، تُبنى عليه شرعية السلطة أو الفكرة أو الجماعة. فهي اللحظة التي يُقال فيها إن "الوطن وُلد"، أو "الثورة بدأت"، أو "الدولة انطلقت"، أو "العصر الذهبي انبثق". ويتم تجاهل ما سبقها من مقدمات، وما تلاها من انقطاعات.
لكن الحقيقة أن معظم لحظات التأسيس التاريخية لم تكن بريئة ولا واضحة، بل كانت صراعات مشوّشة، مليئة بالتحالفات والخيانات والصدف والمصالح. إلا أن السردية الرسمية تقوم بانتقاء زاوية واحدة من المشهد، وتحويلها إلى أصلٍ مُطلق. فمثلاً، تُختزل ثورات الشعوب في لحظة إعلان، وتُمحى المراحل التي سبقتها، كما يُمحى لاحقًا انحرافها عن مبادئها.
من الأمثلة الصارخة: تأسيس بعض الدول العربية الحديثة، حيث تُقدَّم لحظة الاستقلال أو إعلان الجمهورية أو "حركة الضباط" باعتبارها ولادةً شرعية بلا دماء ولا مصالح استعمارية. ويتم إسكات كل الأسئلة حول الدور البريطاني أو الفرنسي، أو الصفقات التي عُقدت في الظلام، أو الإقصاء الذي تلا لحظة الإعلان.
كذلك الحال مع الأحزاب العقائدية التي تؤسطر لحظة التأسيس: تأسيس الحزب، أو ظهور القائد، أو انتصار المعركة الأولى. فتتحول اللحظة إلى مرجع ديني/تاريخي لا يُمس، ومن يُشكك بها يُتهم بالخيانة أو الجهل أو الانفصال عن الأمة. وهكذا، يتم تجميد التاريخ عند لحظة ملائمة، وتُحظر العودة إلى ما قبلها.
المفارقة أن هذه اللحظات التأسيسية كثيرًا ما تُعاد كتابتها مع تغيّر السلطات. فكل سلطة جديدة تسعى لخلق "بداية جديدة"، تعيد تأريخ التاريخ لصالحها. فتمحو ما قبلها، وتُجرّم روايات غيرها، وتبدأ من نقطة تجعلها المركز لا الهامش.
لهذا، فإن السؤال النقدي الواجب طرحه دائمًا هو: لماذا هذه اللحظة بالذات تُقدَّم كبداية؟ ومن يربح من تثبيتها؟ وماذا تُخفي من تعقيدات الواقع؟ فـ"البدايات المقدسة" قد تكون النهاية الفعلية للوعي.