الأبطال والأعداء: تبسيط التاريخ لصالح السلطة
في كل سردية رسمية، هناك دائمًا "بطل" و"عدو". فالرواية السلطوية لا تتحمّل التعقيد، ولا تسمح بالتأويلات المتعددة، بل تحتاج إلى شخصيات رمزية تمثل الخير المطلق والشر المطلق، لتثبيت تصور بسيط للعالم يخدم استقرارها الخطابي والنفسي. إنها رواية تبحث عن الطمأنينة لا الحقيقة، وعن التعبئة لا الفهم.
تُقدَّم الشخصيات التاريخية في الإعلام الرسمي والمدرسي إما كرموز خالدة، أو كخونة مدفوعي الأجر. لا يوجد بينهما مساحة للإنسان المركّب، ولا للفاعل المربك الذي يتغير أو يتناقض. فالبطل لا يُخطئ، والعدو لا يُفكَّر فيه، بل يُلعن وحسب. وبهذا، يتم تفريغ التاريخ من إنسانيته، وتُختزل الصراعات الكبرى إلى حكايات سطحية لا تحفّز السؤال.
من الأمثلة البارزة، الطريقة التي تُقدَّم بها حركات المقاومة أو الثورات أو الانقلابات، حيث تُرفع صور "القائد الملهم" وتُسرد بطولاته، بينما يتم تجاهل آلاف الأشخاص الذين شكّلوا الأرضية الفعلية لتلك الأحداث، والذين قد يكونون أكثر وعيًا، أو أشد تضحية، أو حتى أكثر نقدًا. لكنهم لا يخدمون السردية، فيُمحَون.
بالمقابل، يُضخّم "العدو"، ويُمنح ملامح شيطانية تُبرر كل عنف ضده، وتُلغي أي محاولة لفهم دوافعه أو سياقه. هذا لا يعني تبرئة المعتدين، بل رفض التحليل الكسول الذي يجعل من الخصم مجرد صورة كاريكاتورية. فحتى الأعداء يجب أن يُفهموا، لأن في فهمهم تتضح خفايا الصراع، وليس في لعنهم فقط.
هذا التبسيط الخطابي يؤدي إلى نتائج وخيمة: يتربى الجمهور على تصور أسطوري للواقع، لا يسمح بالاختلاف، ولا يعترف بالخطأ، ولا يقدّر التعقيد. وتُصبح الحياة السياسية مجرّد مسرحية أبطالها معروفون سلفًا، وأعداؤها محدَّدون بلا مساءلة.
بل تُصبح بعض المجازر والخيانات والمآسي مُبرَّرة فقط لأن "البطل" هو من ارتكبها. ويُعاد تأويل الجرائم على أنها ضرورات تاريخية، أو "قرارات صعبة" لحماية الأمة. بينما لو ارتكبها العدو نفسه، لصارت "دليلًا على وحشيته". إنها ازدواجية أخلاقية تُنتج وعيًا زائفًا، وتُفرغ الأخلاق من مضمونها.
التاريخ لا يُفهم إلا حين نحرر أبطاله من التقديس، وأعداءه من التشييط. حين نرى الناس كما كانوا: بشرًا في صراع مع ظروفهم، لا تماثيل نُلوّح بها على الشاشات. ولهذا، فإن تفكيك ثنائية "البطل والعدو" ضرورة لفهم أعمق، لا للتشكيك في كل شيء، بل للتحرر من التلقين.