كيف نقرأ الماضي كي نفهم الحاضر: نسيان مقصود : حين تُدفن الوقائع حماية للسردية

 

نسيان مقصود: حين تُدفن الوقائع حماية للسردية

أخطر ما في الإعلام السلطوي ليس فقط ما يقوله، بل ما يتجاهله. فالنسيان في هذا السياق ليس عارضًا ولا عشوائيًا، بل هو اختيار واعٍ، أداة أساسية في صناعة الوعي الزائف. يتم تجاهل أحداث وشخصيات وسياقات، لأنها تُربك الرواية، أو تُشكك في الشرعية، أو تُذكّر بفشل أو خيانة أو جريمة، ولذلك تُدفن عمدًا في صمتٍ مؤسسي.

النسيان هنا لا يعني عدم الذكر فقط، بل يعني المحو المنهجي من الذاكرة الجمعية، سواء عبر تغييبها من الكتب المدرسية، أو تجاهلها في الإعلام، أو حذفها من أرشيف الدولة، أو تشويهها في الروايات الرسمية. وفي أحيان كثيرة، يتم استبدال الوقائع برموز مختلَقة، تحتفل بها الأمة بينما تنسى ما يستحق الحداد.

خذ على سبيل المثال أحداثًا دموية أو محطات انتكاس كبرى في تاريخ الدول العربية. كم من مذبحة أو انشقاق أو خيانة وطنية تم طيّه بالصمت، أو إعادة تأويله كـ"قرار صائب في حينه"، أو لم يُذكر أبدًا؟ وكم من شخصية نزيهة أو معارضة شريفة تم طمسها لأنها لا تنسجم مع الخط العام للرواية الرسمية؟

هذا "النسيان المقصود" لا يقتصر على الإعلام الرسمي فحسب، بل يتمدد إلى المؤسسات التعليمية، والخطاب الديني، وأحيانًا حتى إلى الثقافة الجماهيرية. يتم خلق فضاء عام يرفض ذكر ما يعكر صفو الرواية، ويُعاقب من يذكّر به. بل إن الذاكرة الجماعية نفسها تُعاد برمجتها لتتحسس من هذه الوقائع، فتراها "فتنة"، أو "إثارة للبلبلة"، بدلاً من كونها حقائق يجب مواجهتها.

في هذا الجو، تصبح الحقيقة مرهونة بمدى انسجامها مع الرواية المقرّرة، لا بمدى صدقها أو توثيقها. ويصبح السكوت عن الجريمة فضيلة وطنية، وطلب الحقيقة خيانة رمزية. وهكذا، يُصنع وعي جمعي خاضع، هش، ينتقي من الذاكرة ما يُبقيه مستقرًا في حضن السلطة.

إن مقاومة هذا الشكل من النسيان تتطلب مشروعًا مضادًا للذاكرة، لا يكتفي بالكشف بل بإعادة أرشفة الواقع من وجهة نظر الإنسان، لا السلطة. مشروع يعيد طرح الأسئلة: ماذا نسينا؟ ولماذا؟ ومن المستفيد؟ فالتاريخ ليس ما يُقال فقط، بل ما يُخفى عمدًا.

عودة إلى: القائمة الرئيسية

أحدث أقدم