
الطمس الانتقائي للذاكرة: حين يُمحى ما يُحرج
ليست كل الأكاذيب تُروى، فبعضها يُصاغ بالصمت. والذاكرة الجمعية، مثلها مثل الذاكرة الفردية، لا تنسى وحدها، بل تُجبر أحيانًا على النسيان. وهذا ما يحدث حين تتدخل السلطة – السياسية أو الإعلامية أو الثقافية – لحذف ما يُحرجها من السردية الرسمية. هنا لا نتحدث عن تجاهل بسيط، بل عن طمس انتقائي يُعيد تشكيل الماضي كي يوافق الحاضر الذي تفرضه القوة.
تُمحى أحداث بعينها من كتب التاريخ، تُسحب شهادات، تُغلق الأرشيفات، تُمنع الأفلام الوثائقية، ويُمنح المؤرخون الرسميون أوامر بالصمت أو التبرير. وحين يتساءل الجيل الجديد عن حادثة كبرى، لا يجد لها أثرًا إلا في ذاكرة الشهود الذين تآكلهم الزمن… أو في صفحات المنفيين.
الطمس لا يقتصر على إخفاء المعلومات، بل يتعداه إلى نفي وجودها أصلًا. تصبح المجازر "أحداثًا أمنية"، والانقلابات "تصحيحات"، والتطبيع "خيارًا استراتيجيًا"، ويُسجن من يذكر أسماء من طُمست أسماؤهم من ذاكرة الأمة. وهكذا يُصاغ التاريخ عبر نفي ما لا يخدم السردية، كما يُصاغ عبر اختراع ما يخدمها.
الأخطر من ذلك أن الذاكرة حين تُفرَغ من عناصرها المقلقة، تفقد الشعوب القدرة على المقارنة والمحاسبة. كيف يمكن لمجتمع أن يطالب بالعدالة، وهو لا يعرف أنه ظُلم؟ كيف يطالب بالحرية، وهو لا يعرف أنه قُمِع؟ وكيف يقاوم الكذب، وهو لا يملك سجلًا واضحًا لما جرى فعلًا؟
الطمس الانتقائي ليس فقط خيانة للحقيقة، بل جريمة ضد المستقبل. إنه يجعل الشعوب تبدأ كل مرة من الصفر، لأن الماضي محجوب، والذاكرة مشوَّهة، والدروس غير متاحة. وبذلك تُمنع المجتمعات من أن تبني وعيها على تجربة تراكمية. بل تُحاصر في حاضر أبدي، يُعاد فيه إنتاج الأخطاء نفسها تحت شعارات جديدة.
في زمن الصورة، أصبحت السيطرة على الذاكرة أكثر تعقيدًا. فحتى إن طُمست الواقعة من الكتب، قد تظهر صورة أو مقطع فيديو يعيد فتح الجرح. ولهذا فإن معركة الذاكرة اليوم تُخاض في كل مساحة: التعليم، الإعلام، الثقافة، وحتى في أرشيف الإنترنت. لأن من يربح معركة الذاكرة، يربح شرعية السلطة.
ليست كل وقائع الماضي مُرحّبًا بها في ذاكرة الأمم. هناك ما يُحتفى به، وهناك ما يُنسى عمدًا. لكنّ النسيان هنا ليس صدفة، بل فعلٌ سياسيّ بامتياز، يمارسه الخطاب الرسمي حين يطمس ما لا يناسبه من سرديات. إنّه "الطمس الانتقائي" للذاكرة: حين تُمحى الوقائع لا لأنها باهتة، بل لأنها محرجة.
عندما تخجل السلطة من جريمةٍ ما، لا تعتذر عنها، بل تمحوها من الكتب والمقررات. وعندما يكون هناك خونة حقيقيون تعاونوا مع العدو، لا يُذكرون إلا كـ"عناصر مجهولة". وإذا حدثت انتفاضة شعبية خنقتها الدبابات، تُحذف من المناهج، ويُطلق عليها اسم "أحداث شغب". وحين تُطرح الأسئلة: لماذا لم نتعلم عنها؟ يكون الجواب الوحيد: "هذا لم يحدث" أو "لا جدوى من نبش الماضي".
إن الطمس الانتقائي لا يقتصر على حذف الصفحات، بل يشمل إعادة تشكيل الذاكرة العامة عبر تغييب الرموز، وتبديل أسماء الشوارع، وإهمال توثيق الشهادات الفردية، بل وتخويف الأجيال من طرح الأسئلة. وهكذا يتحوّل التاريخ إلى مسرح بلا كواليس، حيث لا يُعرض إلا ما يليق بالمشهد الرسمي.
والأخطر من ذلك، أن غياب الرواية لا يعني غياب الأثر. فالألم الجماعي يبقى، والجراح المفتوحة تنتقل عبر الحكايات الشفهية، لكنها بلا شرعية، بلا وثائق، بلا اعتراف. وهنا يكمن الخطر: أن يُترك الماضي كجرح بلا اسم، فلا يُداوى ولا يُفهم.
في كثير من البلدان، لا تزال المحطات السوداء في التاريخ القريب — من مذابح، واعتقالات، وتواطؤات سياسية — بلا سردية رسمية، لا لأنها غير معروفة، بل لأنها غير مُريحة. الطمس الانتقائي هو استثمار في الجهل، وهو طريقة لضمان أن تبقى الأسئلة بلا أجوبة، وأن تبقى السلطة في مأمن من المحاسبة التاريخية.
المفارقة أن الشعوب التي تُرغَم على نسيان ماضيها، لا تنساه فعليًا، بل تفقد القدرة على تفسيره. فينشأ وعيٌ مُشوّش، عاجز عن الربط بين الحاضر والماضي، وغير قادر على مساءلة ما يحدث اليوم لأنه لا يعرف ما جرى بالأمس.
ولا ينهض وعي الأمة إلا حين تُستعاد ذاكرتها بكل صدق، دون طمس ولا تزييف. لأن من لا يملك ذاكرة، لن يملك سردية. ومن لا يملك سردية، سيعيش دومًا داخل قصة كتبها الآخرون.