استبدال الوقائع: حين تُزرع ذاكرة جديدة
ليست الكارثة فقط في حذف بعض الصفحات من التاريخ، بل في كتابة صفحات مزيفة وتثبيتها في الذاكرة الجمعية كأنها الحقيقة الوحيدة الممكنة. يحدث ذلك عندما لا يُكتفى بطمس ما يُحرج، بل يُستبدل بسرديات مصنوعة بعناية، فيها الأبطال مختارون بعناية، والأعداء محددون مسبقًا، والانتصارات محسومة سلفًا. إنها ليست مجرد رقابة، بل إعادة برمجة الذاكرة ذاتها.
حين تُزرع الوقائع المصطنعة في الأذهان، لا يعود الماضي مجرد خلفية لفهم الحاضر، بل يصبح أداة لإعادة تشكيل الحاضر نفسه. من خلال التعليم والإعلام والاحتفالات الرسمية، يُعاد عرض تاريخ مشذّب أو مُختلَق على هيئة “هوية وطنية” أو “رواية قومية”، تتسلل بهدوء إلى الوعي وتُصبح مع الوقت حقائق بديهية في نظر من لم يعايش الحقيقة الأصلية.
تستخدم السلطات في ذلك أدوات متعددة: كتب دراسية تختزل أو تختلق، أفلام وثائقية تمثيلية تُعيد تمثيل الماضي وفق رؤية محددة، أخبار تلفزيونية تُعيد تفسير أحداث تاريخية بناءً على اللحظة السياسية الراهنة. فيتحول التاريخ إلى أداة دعاية باردة، لا لتفسير ما جرى، بل لإقناعنا بما يجب أن نؤمن به الآن.
الأخطر أن هذه الوقائع البديلة لا تُقدَّم كافتراضات، بل كـ"حقائق نهائية". وحين تنشأ أجيال كاملة لا تعرف إلا هذه الرواية، تصبح الذاكرة الجماعية مسيّجة بسياج من الخيال المُقنن، بحيث يبدو التشكيك فيها ضربًا من الخيانة أو الهذيان. وهكذا، لا يعود بإمكان المجتمع أن يسائل الماضي، لأن الماضي نفسه أعيدت كتابته من جديد.
تتجلى هذه الظاهرة بوضوح في النماذج الشمولية، لكن آثارها لا تغيب حتى في البيئات الديمقراطية. فكل سلطة تميل بطبعها إلى إعادة سرد ما مضى بطريقة تعزز شرعيتها. الفرق فقط هو في شدة الهيمنة، ومدى تعددية مصادر السرد، وقدرة الأفراد على الوصول إلى روايات أخرى خارج الرواية الرسمية.
لكن المقاومة ممكنة. فالوعي النقدي لا يبدأ من معرفة التفاصيل الغائبة فحسب، بل من الشك في التفاصيل الحاضرة: من الذي رواها؟ ولماذا رواها بهذه الصيغة؟ وما الذي حُذف قبل أن نسمعها؟ حين نُعيد مساءلة ما نظنه مسلّمًا، نكون قد بدأنا في استعادة ذاكرتنا من جديد.
المقال :
استبدال الوقائع: حين تُزرع ذاكرة جديدة
حين تعجز السلطة عن إخفاء الماضي أو طمسه، فإنها تلجأ إلى خطة بديلة أشد مكراً: صناعة ماضٍ بديل. وهنا لا تكتفي بتزييف الحاضر، بل تقوم بزرع وقائع مزيفة داخل الذاكرة الجمعية، تُقدّم كـ"حقائق" ثابتة ومقدسة، فتتحول الأكاذيب مع الزمن إلى تاريخ رسمي، وتُنسى الحقيقة الأصلية كما تُنسى الملامح الحقيقية تحت طبقات الطلاء الزائف.
تُبنى هذه العملية على مبدأ خطير: "ما يُكرَّر يُصدَّق". فبمجرد تكرار حدث مختلق، وعرضه في المناهج، وتخليده في الأعمال الفنية، والاحتفال به في المناسبات القومية، يُدمج في وعي الأجيال بوصفه جزءًا من الهوية الوطنية، بل يصبح التشكيك فيه خيانة أو هرطقة فكرية.
من الأمثلة الصارخة على هذا، ما نراه في بعض الأنظمة التي تبتدع بطولات وهمية، وتضخم أدوار زعماء لم يقوموا بها قط، أو تعزو إنجازات شعبية إلى قرار مركزي "حكيم" لم يصدر أصلًا. ويصل الأمر أحيانًا إلى اختلاق معارك لم تقع، أو إخفاء القادة الحقيقيين خلف أسماء مكرَّسة فرضها الإعلام الرسمي.
ووسائل الإعلام في هذا السياق ليست مجرد ناقل للزيف، بل هي شريك في صناعته. فهي توظف السينما، والأغاني الوطنية، والدراما التاريخية، بل وحتى النشرات الوثائقية، لصياغة رواية متماسكة ومؤثرة، تخاطب العاطفة، وتُظهر "الواقع" المختلق وكأنه قدر لا يُرد.
ويُصبح البديل المصنوع أكثر رسوخًا عندما يترافق مع إسكات ممنهج لكل رواية بديلة. فالمؤرخ المستقل يُقصى، والشاهد الحي يُخوَّن، والمعلومة الوثائقية تُخفى أو يُشكك فيها. فلا يبقى أمام الجيل الجديد إلا الحكاية الرسمية، وكل ما عداها يُجرَّم بوصفه "تشويها للتاريخ".
في هذه اللحظة، لا تعود الذاكرة الجمعية مجرد مرآة تعكس ما جرى، بل تصبح مرآة مشوهة تَعكس ما تريده السلطة أن نراه، حتى لو لم يكن قد حدث أبدًا.
إن استبدال الوقائع لا يعني فقط تغيير ما نعرفه، بل يعني تغيير من نكون. فمن دون ذاكرة صادقة، لا هوية حقيقية. ومن دون هوية صادقة، لا حرية فكرية ولا مستقبل نزيه. إن أولى خطوات التحرر تبدأ باستعادة الذاكرة من أيدي من يحاولون إعادة كتابتها، لا لتنويرنا، بل لإخضاعنا.