فهم الخطاب الاعلامي - الذاكرة الجمعية وصناعة التاريخ: تأميم الذاكرة: كيف تحتكر الأنظمة حق التذكّر؟

 

تأميم الذاكرة: كيف تحتكر الأنظمة حق التذكّر؟

في المجتمعات التي تهيمن فيها السلطة على مفاصل الحياة، لا يقتصر الاحتكار على الاقتصاد أو السياسة، بل يمتد إلى ما هو أعمق: الحق في تذكّر الماضي. تأميم الذاكرة هو الوجه الأشد مراوغة للاستبداد، حين تدّعي الدولة أنها المفسّر الوحيد للتاريخ، والوصي الحصري على ما يجب أن يتذكره المواطن، ومتى، وكيف، ولأي غرض.

تبدأ العملية غالبًا باسم "الوحدة الوطنية"، أو "الهوية الجامعة"، لتُفرض من خلالها رواية واحدة للتاريخ، تُحذف منها الوقائع الحرجة، وتُجمَّل الشخصيات الجدلية، ويُعاد تأهيل الحقبة السلطوية كمرحلة إنجاز وازدهار. فتتحول الدولة من كيان سياسي إلى روائي متفرّد يُدير أرشيف الذاكرة بما يخدم بقائها.

هذا التأميم لا يتم دائمًا بالقوة المباشرة، بل غالبًا عبر أدوات ناعمة:
– مناهج دراسية تختصر التاريخ في فصول تُمجّد الحاكم والمؤسسة
– إعلام جماهيري يكرر سرديات موحّدة بلا مساءلة
– احتفالات وطنية تستعرض مشاهد مختارة بعناية
– متاحف ونُصب تذكارية تعيد تمثيل الماضي وفق منطق سلطوي

وفي كل ذلك، لا تُروى الحكاية كما حدثت، بل كما يجب أن تُفهم، في ضوء أهداف السلطة اليوم. فتصبح الذاكرة نفسها مشروعًا سياسيًا.

الخطورة هنا لا تكمن فقط في احتكار السرد، بل في تجريم الذاكرة البديلة. فحين يجرؤ أحدهم على التذكير بوقائع مغيّبة، أو يروي القصة من زاوية المهمّشين أو الضحايا، يُتهم بتشويه التاريخ أو تهديد الوحدة أو التحريض. وتصبح حرية التذكّر تهديدًا أمنيًا، لا حقًا إنسانيًا.

لكن التاريخ لا يُمحى بالكامل، بل يُركَن في الزوايا، ويختبئ في الذاكرة الفردية، وفي الحكايات الشفهية، وفي الكتب المحظورة، وفي ضمائر من عايشوا ما لا يُراد له أن يُروى. وهذه الشظايا، حين تلتقي وتُستعاد، تُحدث شرخًا في الرواية الرسمية، وتذكّر الجميع بأن للذاكرة وجهًا آخر.

إن مقاومة تأميم الذاكرة لا تعني تمجيد الفوضى السردية، بل تعني تحرير الذاكرة من قبضة السلطة، وفتح المجال أمام التعدد والتعارض، لأن الأمم لا تبنى على سردية واحدة، بل على اعتراف متبادل بوجود روايات متوازية، لكل منها صوتٌ ووجعٌ ودلالة.

حين تُقرر السلطة أن الذاكرة الجمعية أصبحت شأنًا "سياديًا"، فإنها تُمارس ما يمكن تسميته بـ"تأميم الذاكرة". لم يعد من حق الأفراد أو الجماعات أن يتذكّروا ما شاؤوا، بل أصبح التذكّر ذاته خاضعًا للرقابة، والتنقيح، والتوجيه. وتتحوّل الذاكرة من مساحة جمعية حرة، إلى ممتلكات سياسية تخضع لهيمنة الدولة.

تأميم الذاكرة لا يتم بإصدار مرسوم، بل عبر شبكة معقدة من الآليات الناعمة والخشنة. تبدأ بالمناهج الدراسية، التي لا تنقل المعرفة بل تُملي ما يجب أن يُحفظ، وتمر بالمؤسسات الإعلامية التي لا تكتفي بتغطية الحاضر، بل تعيد إنتاج الماضي وفق ما يناسب الرواية الرسمية، وتنتهي بأجهزة الرقابة التي تقمع الروايات البديلة، وتمنع نشر الوثائق المحرجة، وتحوّل التاريخ إلى عقيدة مغلقة لا تقبل النقاش.

في هذه المنظومة، لا يُسمح بالتذكر الانتقائي فقط، بل يُمنع التذكّر الفردي. فشهادة الجدّ الذي عاش مجزرة، أو رواية الناشط الذي شهد خيانة وطنية، تُعتبر تهديدًا للسردية الرسمية، ويُواجه أصحابها بالتشكيك أو التخوين أو حتى السجن. فتضيع الروايات الشخصية، وتُطمس الآثار المادية، وتُحذف الوثائق من الأرشيف الوطني، باسم "الوحدة الوطنية" أو "مصلحة الأمة".

لقد رأينا هذا النموذج في عدة دول، حيث يتم ترسيخ سردية وطنية واحدة، وتُجرَّم كل ذاكرة لا تنسجم معها. فتاريخ المعارضة يُمحى، وجرائم الدولة تُبرر أو تُنسى، وتُقدَّم صورة طهرانية للماضي، خالية من الصراع، ومليئة بالبطولات والانتصارات الخيالية.

تأميم الذاكرة يعني، في جوهره، احتكار الحق في تفسير الماضي، وتحديد ما يجوز تذكّره، وما يجب نسيانه. إنه نوع من المصادرة الرمزية، يُشبه مصادرة الأراضي، لكنه لا يُصيب الجغرافيا، بل الوعي ذاته.

غير أن الخطر الأكبر في هذا التأميم لا يكمن فقط في تزوير التاريخ، بل في تدمير المستقبل. إذ لا يُبنى مجتمع سليم على ذاكرة مزيفة، ولا تُمارس المواطنة الفاعلة من دون وعي نقدي بالتاريخ. لذلك، فإن مقاومة هذا التأميم تبدأ باستعادة الحق في التذكّر، وفتح الأرشيفات، والاستماع إلى الروايات المهمشة، وتحويل الذاكرة من ملكية رسمية إلى حوار حيّ بين البشر.

سلسلة: مسارات فهم الخطاب الإعلامي

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.