الذاكرة الجماعية والمصالحة المفقودة
لا يمكن لأمة أن تتصالح مع حاضرها أو تبني مستقبلها إن كانت تُنكر ماضيها، أو تُزوّره، أو تُسكت عنه. فالذاكرة الجماعية ليست ترفًا فكريًا، بل شرطًا جوهريًا لأي مصالحة حقيقية. لكن المصالحة لا تبدأ من النسيان، بل من التذكّر بشجاعة. من مواجهة ما جرى، بكل ما فيه من ألم ودماء وخيانة وصمت.
حين تُحجب الوقائع المؤلمة، أو تُطمس جرائم السلطة، أو يُمنع الحديث عن المذابح، أو يتم التلاعب بسير الثورات والانقلابات، فإن ما يُدفن لا يختفي، بل يتحول إلى غُصة تحت جلد الوعي الجمعي، ويظل ينزف في الصمت، في النكتة، في الفجوة بين ما يُقال وما يُعاش.
المجتمعات التي لا تواجه ذاكرتها بصدق تبني حاضرها على شقوق خفية. وقد تنجح السلطة وقتًا ما في فرض الصمت، لكنها لا تستطيع محو الشعور العميق بأن ثمة شيئًا لم يُروَ، وأن التاريخ الرسمي ليس سوى نسخة منقحة بلا ملامح حقيقية. وهذا الشعور كافٍ لزرع انعدام الثقة بين الأفراد، وبين المواطن والدولة، بل وبين الجيل والجيل.
تجارب المصالحة الحقيقية – كما في جنوب أفريقيا بعد الأبارتايد، أو في رواندا بعد المجازر – لم تُبنَ على طيّ الصفحات، بل على فتحها جميعًا، والاستماع إلى الشهادات، والاعتراف بالوقائع، والقبول بالمحاسبة ولو الرمزية. فالعدالة الرمزية نفسها، حين تكون صادقة، تعيد للضحايا إنسانيتهم، وتُحرّر الجناة من عبء الإنكار.
لكن المصالحة لا تتحقق بالاحتفالات أو الشعارات، بل بإرادة سياسية وشجاعة أخلاقية تقبل بأن الهوية الجماعية لا تُبنى من سردية واحدة، بل من الاعتراف بتعدّدها. لا يعني هذا أن كل رواية صادقة، لكن يعني أن لا أحد يحتكر الحقيقة، وأن النسيان القسري ليس حلاً بل تأجيلاً للانفجار القادم.
إذا أردنا أن نُصالح أنفسنا، فعلينا أن نتصالح أولًا مع ذاكرتنا، وأن نفتح الجروح لا لنبشها، بل لنعالجها. لأن المجتمعات التي تنكر آلامها القديمة، تظل أسيرة لها... وإن بدت مزدهرة في الظاهر.
المقال :
الذاكرة الجماعية والمصالحة المفقودة
ليست الذاكرة مجرد استرجاع للماضي، بل هي فضاء مشترك يُبنى عليه الحاضر وتتأسس فيه شرعية المستقبل. لهذا، فإن المجتمعات التي لا تعترف بذاكرتها المُجزأة والمقموعة، تظل عاجزة عن تحقيق المصالحة الحقيقية بين مكوناتها، بل تبقى أسيرة صراعاتها المدفونة.
في كثير من الدول، خاصة تلك التي خرجت من فترات قمع أو استعمار أو حروب أهلية، كانت هناك فرصة لإرساء مصالحة وطنية عبر مواجهة صريحة مع الذاكرة الجمعية: بالاعتراف، بالاستماع إلى الضحايا، بفتح الملفات، بطرح الأسئلة الصعبة دون خوف. لكن في دول أخرى، فُضلت "المصالحة الصامتة"، أي التجاهل المتعمَّد، والصمت الرسمي، والدفن الرمزي للماضي باسم الاستقرار.
هذا التجاهل لا يُنتج مصالحة، بل يُعمّق الانقسام. فالفئات التي عانت من التهميش أو القمع أو الإبادة لا تنسى، حتى وإن فُرض عليها الصمت. والذاكرة المؤجلة تُراكم الغضب، وتتحوّل إلى شرخ دائم في وجدان الجماعة الوطنية. وحين يُعاد فتح الجرح، لا يكون في سياق شفاء، بل في لحظة انفجار.
إن غياب المصالحة لا يعني فقط غياب العدالة، بل يعني أيضًا تكرار الأخطاء. فحين يُمنع المجتمع من مواجهة ماضيه، يصبح عرضة لإعادة إنتاج آليات القمع والتهميش، ولتكرار نفس المآسي بأسماء جديدة. الذاكرة التي لا تُعالَج تتحوّل إلى لعنة.
تجارب مثل جنوب إفريقيا (لجنة الحقيقة والمصالحة)، أو رواندا، أو تشيلي، أظهرت أن الاعتراف هو أول خطوة نحو الشفاء، وأن العدالة ليست بالضرورة انتقامًا، بل شرط للعيش المشترك. أما إنكار الماضي، فليس إلا مقدّمة لانفجار قادم.
إن المصالحة تبدأ حين يُعترف بالألم، لا حين يُنكَر. حين يُفتح المجال للروايات المتعددة، لا حين تُفرض رواية رسمية. حين نتحرر من وهم "الذاكرة المقدسة"، ونمنح الناس الحق في أن يتذكّروا، ويتألموا، ويتكلموا.
فهل نملك الشجاعة كي نسمع ذاكرتنا الجماعية كما هي، بكل تعقيداتها وتناقضاتها؟ أم سنواصل دفن الماضي في مقابر الصمت، حتى يعود يومًا، أشد قسوة؟