من أنا وسط كل هذا الضجيج: ما هي الهوية؟ ولماذا تُطرح الآن؟

 

ما هي الهوية؟ ولماذا تُطرح الآن؟

في زمن التداخل والانزياح، لم تعد الهوية سؤالًا هامشيًا في كتب الفلسفة أو سجالات النخب، بل باتت وجعًا يوميًا، وسؤالًا وجوديًا يُطرح في كل موقف، وكل شاشة، وكل منعطف سياسي أو ثقافي.

ولكن، ما هي الهوية أصلًا؟ وهل هي جوهر ثابت نحمله في أعماقنا، أم بناء اجتماعي وثقافي نُصاب به كما نُصاب بلغاتنا ولهجاتنا؟ ولماذا يُلحّ العالم المعاصر بهذا الإصرار الغريب على زعزعة الشعور بالانتماء، وإعادة طرح سؤال "من نحن؟" مرة بعد أخرى؟

الهوية بين الجوهر والبناء

لطالما انقسم المفكرون في فهم الهوية بين مدرستين:

  • الأولى ترى أن الهوية جوهر ثابت، متجذر في التاريخ والدين والثقافة، لا يتغير بتغير الزمان أو الجغرافيا.
  • والثانية تعتبرها بناءً اجتماعيًا يتشكل في سياقات السلطة، ويتأثر بالخطاب والتعليم والإعلام، ما يجعلها قابلة للتشكيل، وإعادة التشكيل.

لكن الأهم من الخلاف بين المدرستين هو أن الهوية ليست شعورًا فرديًا معزولًا، بل وعيًا جمعيًا يتكون تحت ضغط الخارج، تحت التهديد، أو في لحظات الصدمة والانكشاف.

متى يُطرح سؤال الهوية؟

لا يُطرح سؤال الهوية في العادة من فراغ، بل يُطرح حين يقع شرخ ما:

  • حين تُسلب الأرض، أو يُشوّه التاريخ.
  • حين تتآكل اللغة، أو يتغير شكل المدينة.
  • أو حين يتحدث الإعلام عنك كما لو أنك لا تملك لسانًا.

في تلك اللحظات، لا نعود نعرف من نحن، لأن العالم حولنا بدأ يُعرّفنا بطريقة لا تشبهنا. هنا يبدأ الاغتراب، ويبدأ البحث عن هوية، ليس بمعناها البسيط، بل بوصفها محاولة لإعادة تعريف الذات في مواجهة سردية مهيمنة.

لماذا الآن؟ ولماذا بهذا الإلحاح؟

في العقود الأخيرة، دخل العالم العربي ـ ومعه مجتمعات كثيرة ـ في دوامة العولمة، والانفتاح الإعلامي، والانهيارات السياسية والثقافية. ومع هذا الانفجار الهائل في المرويات والرموز والنماذج، بات الفرد عرضة لتأثيرات لا تنتهي:

  • نماذج الهوية المستوردة من السينما والإعلام.
  • الخطابات الدينية المتناحرة حول "من هو المسلم الحقيقي".
  • الصور النمطية التي تُصنّعها القوى الكبرى عن "الآخر العربي".

كل ذلك جعل سؤال الهوية حاضرًا في قلب الصراع، ليس كترف ثقافي، بل كساحة حرب رمزية تُخاض على العقول والنفوس.

من يطرح السؤال؟ ومن يملك الإجابة؟

الأخطر في مسألة الهوية أن السؤال عنها لا ينبع دائمًا من الداخل، بل كثيرًا ما يُفرض من الخارج.
حين تسأل القوى الكبرى: "من أنتم؟"، فهي لا تنتظر إجابة، بل تُعدّ الإجابة سلفًا، وتُلبسك إياها.
الإعلام العالمي، والمناهج الدراسية، وحتى مؤسسات التنمية الثقافية، كلها تشارك اليوم في إعادة إنتاج هوية مناسبة للسوق، وللسياسة، وللأمن العالمي.

حين تُنتَزع الهوية: المأزق النفسي والسياسي

حين لا يعود الإنسان يعرف من هو، يصبح قابلاً لأن يكون أي شيء.
وتلك هي بداية فقدان التماسك الاجتماعي، والانهيار النفسي، والفراغ الذي تملؤه الأيديولوجيات المتطرفة، أو النزعات الاستهلاكية، أو الانعزال التام.

فالهوية ليست مجرد شعور، بل إطار للفهم، ومجال للفعل، وشعور بالأمان الوجودي.

ما الذي سنحاول كشفه في هذا المسار؟

في هذا المسار الفكري، لن نبحث عن هوية "خلاصية" جاهزة، بل سنحاول تفكيك:

  • كيف تتشكل الهوية في العقل الجمعي؟
  • من يُعيد تشكيلها، ولماذا؟
  • ما علاقة الاغتراب بضياع الهوية؟
  • كيف يمكن للفرد أن يستعيد تماسكه في عالم يُعيد تعريفه باستمرار؟

إنه مسار في عمق الذات، لكنه ليس ذاتيًا تمامًا.
هو رحلة لفهم "من نحن؟" في مرآة الآخرين، وفي ضجيج العالم، وفي صمت الأسئلة الكبرى التي لم نعد نملك رفاهية تأجيلها.

عودة إلى: القائمة الرئيسية

أحدث أقدم