الاغتراب في زمن العولمة – الجذور الفلسفية والمعاصرة
في اللحظة التي يشعر فيها الإنسان أنه غريب في بيئته، أو أنه يعيش واقعًا لا يشبهه، ولا يفهمه، ولا يمت له بصلة، يكون قد دخل دائرة الاغتراب. لكنه ليس مجرد اغتراب مكاني، بل اغتراب وجودي، ثقافي، ورمزي، يجعل الفرد يضيع بين صورته عن ذاته، والصورة التي يُفرض عليه أن يكونها.
ما هو الاغتراب؟ ومتى وُلد كمفهوم فلسفي؟
ظهر مفهوم "الاغتراب" (Alienation) بشكل بارز في الفلسفة الحديثة، خاصة مع مفكري القرن التاسع عشر مثل هيغل، ثم ماركس، ومن بعدهم إريك فروم ومدارس علم الاجتماع النقدي.
- هيغل رأى أن الاغتراب جزء من تطور الوعي الإنساني، حين يُسقط الإنسان معناه خارج ذاته، ثم يعود لاكتشافه.
- أما ماركس، فقد حدّده كأثر من آثار الرأسمالية، حين يُنتج العامل شيئًا لا يملكه، ويُفصل عن جوهره الإنساني، ويُختزل في وظيفته.
- ثم تطور المفهوم لاحقًا ليُستخدم في تحليل الوعي المغترب في المجتمعات الحديثة، حيث يعيش الإنسان داخل نظام لا يراه، ويخضع لقيم لا يختارها، ويستهلك رموزًا لا يفهمها.
اغتراب الذات في زمن العولمة
في عالم العولمة، لم يعد الإنسان مغتربًا عن إنتاجه فقط، بل عن لغته، ثقافته، تاريخه، وحتى عن ذاته.
فالمفاهيم التي بُنيت عبر قرون، بدأت تنهار أمام سرعة التحول، وتعدد الخطابات، وتراكم الصور، حتى أصبح الوعي مفككًا، مشوشًا، عاجزًا عن الإمساك بثبات أي معنى.
- نرتدي أزياء لا نفهم رموزها.
- نردد شعارات لا نؤمن بها.
- نعيش في مدن لا تمثلنا.
- ونُحاصر بخطابات إعلامية تصفنا، دون أن تستشيرنا.
الإعلام كآلة اغتراب جماعي
ربما لم تُنتج العولمة أداة تغريب أقوى من الإعلام.
فهو لا ينقل الواقع، بل يُنتج واقعًا بديلًا، يفرض صورًا معينة عن "الحياة الناجحة"، و"الشخصية الجذابة"، و"الهوية المقبولة".
وهكذا يصبح الفرد غريبًا عن نفسه دون أن يغادر مكانه، لأنه يرى ذاته في مرآة الإعلام، لا في مرآة وعيه.
الاغتراب في المجتمعات العربية: مضاعفة الغربة
الاغتراب في مجتمعاتنا لا يأتي فقط من الخارج، بل يتضاعف من الداخل:
- حين تُفرض أنماط سلوك غربية باعتبارها "تقدمًا".
- حين يُعاد إنتاج التاريخ وفق روايات المستعمر.
- حين يُشوَّه الدين بين تشدد الأصولية وتفاهة التسليع.
- حين يُحاصر الإنسان بأسئلة الهوية دون أدوات للإجابة.
كل ذلك يجعل الإنسان العربي معلقًا بين نموذج غربي لا يستطيع تقليده، ونموذج تقليدي لا يستطيع الرجوع إليه. فيعيش في مفارقة وجودية: لا هو هو، ولا هو الآخر.
كيف يقود الاغتراب إلى فقدان الهوية؟
الاغتراب ليس مجرد إحساس داخلي، بل حالة متراكبة تؤدي تدريجيًا إلى فقدان البوصلة:
- يصبح الإنسان عاجزًا عن اتخاذ موقف واضح.
- يعجز عن تكوين رأي مستقل.
- يذوب في الموجات الجماعية.
- ويفقد قدرته على مقاومة السرديات المفروضة.
ومتى فقد الإنسان تعريفه لذاته، صار كل ما يُعرض عليه ممكنًا، وكل ما يُطلب منه مقبولًا، لأنه لم يعد يملك "نفسه" ليحتكم إليها.
كيف نواجه هذا الاغتراب؟
المواجهة لا تبدأ بالشعارات، بل بالفهم.
وهذا ما يحاوله هذا المسار: أن يضع أيدينا على الجذور الثقافية والفكرية لهذا الاغتراب، وأن يُعيد لنا أدواتنا المنسية في مقاومة التذويب.
فالتحرر من الاغتراب يبدأ حين نسأل:
من أنا؟ من الذي يقول عني ما أنا؟ ولماذا أقبل أن أكون كما يراني الآخر؟