
الهوية الجمعية في مواجهة القوالب الإعلامية
حين تُختصر أمة بأكملها في مشهد تلفزيوني، أو يُلخّص شعبٌ بأسره في نكتة نمطية، أو تُختزل ثقافةٌ معقدة في صورة نمطية واحدة... فإن ما يحدث ليس مجرد "مبالغة إعلامية"، بل اعتداء رمزي على الهوية الجمعية.
الهوية ليست شعارًا نعلقه على الجدران، بل منظومة من التصورات الجماعية التي تشكل إحساسنا بأنفسنا، وانتماءنا لجماعة، وشعورنا بأن لنا جذورًا وامتدادًا ومعنى. لكن في زمن الهيمنة الإعلامية، لم تعد هذه الهوية تُبنى من الداخل فحسب، بل باتت تتشكل بفعل صور الآخرين عنا.
القوالب الإعلامية: صناعة التصورات الجاهزة
القالب الإعلامي ليس تحليلًا، بل اختزال.
وهو يعمل بمنطق التكرار، لا التفسير. فيُعيد إنتاج الصور النمطية حتى تصبح "بديهيات" في وعي الجمهور.
- العربي = إرهابي، بدوي، متعصب.
- المسلم = رجعي، ضد الحداثة، خطر حضاري.
- الفلسطيني = مشكلة أمنية.
- الأفريقي = فقير، بدائي، مضحك.
- اللاجئ = عبء، تهديد، غير متحضر.
هذه القوالب لا تُقال صراحة دائمًا، لكنها تُبث بصمت عبر السينما، الأخبار، المسلسلات، وحتى الإعلانات. إنها هندسة بصرية وصوتية للوعي، تجعل "الآخر" يبدو كما أراد له صانع الصورة، لا كما هو في واقعه.
من يملك تعريف "نحن"؟
الهوية الجمعية ليست مجرد ما نعتقده عن أنفسنا، بل أيضًا ما يُفرض علينا أن نكونه في عيون العالم.
وهنا تظهر خطورة القوالب الإعلامية: أنها لا تكتفي بوصفنا، بل تُعيد تشكيل وعينا بذاتنا من خلال مرآة الآخرين.
فنبدأ نحن أنفسنا نرى صورنا كما صاغها الإعلام، ونصدقها، ونخجل منها، أو نحاول مطابقتها.
هذا ما يسمى في علم النفس الاجتماعي بـ"التمثيل القهري": حين نُجبر على تمثيل الدور الذي رسمه الآخر، حتى ولو كان زائفًا، فقط لنشعر أننا مقبولون، أو مفهومون.
المقاومة تبدأ من تفكيك الصورة
مواجهة القوالب الإعلامية لا تكون برد القالب بقالب، بل بكسر منطق الصورة نفسه:
- أن نُعيد تعريف أنفسنا بلغتنا، لا بلغة الآخر.
- أن نُنتج سردياتنا بأنفسنا، لا نستهلك ما يُنتج عنا.
- أن نُخرج خطابنا من رد الفعل، إلى المبادرة.
الإعلام العربي: بين التكرار والتواطؤ
الأدهى من القوالب الغربية، أن بعض الإعلام العربي يُعيد إنتاجها داخليًا:
- يسخر من لهجاته الريفية.
- يُشيطن مدنه القديمة.
- يُهين لغته الفصحى ويُحيلها إلى مادة هزلية.
- يُروّج للصورة الغربية بوصفها نموذجًا وحيدًا للحضارة.
وهكذا، تتحول الهوية الجمعية إلى مرآة مشروخة، ننظر فيها فلا نرى إلا صورًا لا تشبهنا، لكنها تُطاردنا.
ما الذي على الهوية أن تفعله؟
الهوية ليست دفاعًا أعمى، ولا انغلاقًا عصابيًا.
إنما هي قدرة على التماسك الرمزي وسط التغير، وقوة على إنتاج المعنى وسط سيل الصور.
ولكي تُقاوم القوالب الإعلامية، عليها أن تستعيد حقها في السرد، وفي النقد، وفي تقديم الذات من الداخل، لا كمجرد رد فعل.
ما نحاول بناءه في هذا المسار:
في مواجهة التذويب الإعلامي، نعيد السؤال حول:
- كيف نُعرّف أنفسنا؟
- من يملك الحق في توصيفنا؟
- هل نستطيع كسر القوالب دون أن نسقط في التبرير؟
- كيف نُنتج هوية جماعية معاصرة، لا مشوهة ولا منسوخة؟
إن معركة الهوية اليوم لم تعد معركة ثقافية فقط، بل معركة سيادة على المعنى، وعلى الصورة، وعلى الحق في أن نقول: "هذا أنا"… لا كما ترون، بل كما أكون.