
مع سقوط الدولة العثمانية نهاية الحرب العالمية الأولى، دخلت الأراضي العربية مرحلة جديدة من إعادة التشكل، لكنها لم تكن إعادة بناء ذاتية، بل إعادة رسم خارجي فرضته القوى الكبرى. بدأت الحقبة بوعود الاستقلال التي قدمتها بريطانيا وفرنسا للشعوب العربية أثناء الحرب ضد الأتراك، لكنها سرعان ما تبددت أمام مصالح الدول الأوروبية في المنطقة.
الخلفية السياسية قبل التقسيم
قبل عام 1918، كانت معظم البلاد العربية جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، تحكمها أنظمة محلية لكنها خاضعة للسلطة المركزية في إسطنبول. ومع ضعف الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، تصاعدت الحركات القومية العربية، بقيادة شيوخ وملوك محليين، مع وعد بريطانيا وفرنسا بالاستقلال مقابل التعاون ضد الأتراك.
لكن هذه الوعود اصطدمت بخطط سرية وضعت بعيدًا عن شعوب المنطقة: اتفاقية سايكس-بيكو 1916، التي قسمت الجزيرة العربية وبلاد الشام بين فرنسا وبريطانيا، واعتُمدت لاحقًا كخارطة للسيطرة على الموارد والنفط والطرق الاستراتيجية.
سايكس-بيكو: الاتفاقية السرية
وقع الاتفاقية البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو لتقسيم النفوذ بينهما. بموجبها:
-
أصبحت سوريا ولبنان تحت النفوذ الفرنسي.
-
أصبحت العراق وفلسطين والأردن وكافة أراضي شبه الجزيرة العربية الاستراتيجية تحت النفوذ البريطاني.
-
تم تجاهل رغبة السكان في تقرير مصيرهم، واعتبرت الحدود المفروضة تعسفية، مستندة إلى مصالح القوى الأجنبية وليس على أساس قومي أو ديموغرافي.
ولادة الدول العربية الحديثة
في السنوات التالية، أعلنت مجموعة من الكيانات الولادة الرسمية:
-
العراق عام 1921 تحت الانتداب البريطاني، بموافقة الملك فيصل الأول بعد انهيار حكم الأسرة الهاشمية في سوريا.
-
سوريا ولبنان خضعا للانتداب الفرنسي بدءًا من 1920.
-
الأردن أصبح إمارة تابعة لبريطانيا، تحت حكم الأسرة الهاشمية، بينما فلسطين خضعت للانتداب البريطاني مع تصاعد الصراع بين العرب واليهود.
-
المملكة العربية السعودية توحدت تدريجيًا تحت حكم آل سعود، مستفيدة من الفراغ السياسي في نجد والحجاز.
دول الخليج بعد سقوط الدولة العثمانية
إلى جانب السعودية، شهدت دول الخليج الأخرى تحولات سياسية مرتبطة بالسيطرة البريطانية:
-
الكويت: بعد اتفاقية حماية مع بريطانيا عام 1899، أصبحت تحت النفوذ البريطاني حتى استقلالها عام 1961.
-
البحرين: أصبحت محمية بريطانية رسمية عام 1920، مع السيطرة على السياسة الخارجية والدفاعية.
-
قطر والإمارات (إمارات الساحل المتصالح): دخلت في اتفاقيات حماية بريطانية مع السماح للحكام المحليين بالإدارة الداخلية.
-
عُمان: رغم استقلالها الجزئي، خضعت لسيطرة جزئية بريطانية على السياسة الخارجية والموانئ الحيوية، خصوصًا ميناء مسقط.
هذه السياسات البريطانية شكلت نموذجًا للاحتلال الناعم: سيطرة اقتصادية وعسكرية وسياسية بدون إدارة مباشرة، مع التأثير العميق على نظم الحكم المحلية، وأدوات الاستقلال لاحقًا.
اليمن: الشمال والجنوب
اليمن كان حالة مختلفة عن معظم الدول العربية:
-
الشمال (مملكة المتوكلية الزيدية): خرج الشمال اليمني من الحكم العثماني بشكل شبه كامل بعد سقوط الدولة العثمانية عام 1918، وأعاد الإمام يحيى حميد الدين توحيد القبائل تحت سلطته، مع دولة مركزية ضعيفة لكنها مستقلة عن الاحتلال الأوروبي المباشر.
-
جنوب اليمن (عدن والمناطق المحيطة بها): بقيت تحت النفوذ البريطاني مباشرة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بعد أن جعلت بريطانيا ميناء عدن قاعدة استراتيجية لحماية طرقها البحرية إلى الهند، وتحولت هذه المناطق لاحقًا إلى مستعمرات بريطانية أو محميات قبل أن تتحرر في منتصف القرن العشرين.
اليمن بهذا الشكل كان مزيجًا من الاستقلال الجزئي في الشمال والحماية المباشرة في الجنوب، وهو ما ألقى بظلاله على وحدة الدولة لاحقًا، والصراعات السياسية الداخلية التي امتدت حتى القرن الواحد والعشرين.
التدخل الدولي وتأثير القوى الكبرى
كانت بريطانيا وفرنسا تقودان العملية بشكل مباشر، مستفادتين من ضعف القوة المحلية:
-
بريطانيا ركّزت على حماية الطرق إلى الهند وحقول النفط في العراق والخليج، وكذلك السيطرة على الموانئ الاستراتيجية.
-
فرنسا سعت لإعادة تأسيس نفوذها التاريخي في سوريا ولبنان، مع ضمان وجود قواعد اقتصادية وعسكرية.
-
الولايات المتحدة كانت متفرجة نسبيًا، لكنها بدأت تبني حضورًا تجاريًا ودبلوماسيًا في المنطقة لاحقًا، مدفوعة بالنفط والأمن الاستراتيجي.
الخسائر السياسية والاجتماعية
أسفر التقسيم عن آثار كبيرة على مستوى المنطقة:
-
تهجير واضطرابات محلية في سوريا ولبنان والعراق نتيجة فرض أنظمة جديدة وحدود اصطناعية.
-
نزاعات مستقبلية مستمرة على الهوية والحدود، بما في ذلك الصراع العربي-الفلسطيني الذي لا يزال يؤثر حتى اليوم.
-
فقدان الشعوب العربية فرصة تقرير مصيرها بالكامل، ما خلق شعورًا دائمًا بالغربة السياسية والوصاية الخارجية.
-
تأسيس دول الخليج كمحمية أو شبه محمية ربط مصيرها بالسياسة الدولية لأجيال لاحقة، رغم استقرار الحكم الداخلي النسبي.
-
في اليمن، ترك الانقسام بين الشمال المستقل والجنوب تحت النفوذ البريطاني أساسًا للصراعات السياسية والاجتماعية المستمرة لاحقًا.
إرث سايكس-بيكو
اتفاقية سايكس-بيكو لم تكن مجرد تقسيم جغرافي، بل إعادة هندسة سياسية للمنطقة لصالح القوى الأوروبية، مع آثار طويلة المدى:
-
رسم خرائط لم تستند إلى التاريخ القومي أو الإثني للشعوب.
-
زرع بذور الصراعات الداخلية بين الطوائف والمجموعات العرقية والدينية.
-
خلق بيئة سياسية هشّة تُغري القوى الكبرى بالتدخل المستمر حتى اليوم.
مآلات الحداثة
اليوم، لا تزال آثار سايكس-بيكو واضحة في النزاعات الحدودية والسياسية في الشرق الأوسط. الحدود المصطنعة، والصراعات على الهوية والسلطة، والتدخل الخارجي المستمر، كلها امتداد مباشر لتلك الاتفاقية السرية التي ولّدت دولة عربية بلا استقلال حقيقي، ووضعت المنطقة في مسار طويل من التحديات التاريخية.