
أما أوروبا؟ فقد خرجت "منتصرة بالتبعية"، لا بالفعل. لقد نجت من السقوط بفضل واشنطن، لكنها دفعت ثمن هذا "النجاة" باهظًا: بالتخلي عن استقلال قرارها، وخضوعها لهيمنة ناعمة اسمها "النظام العالمي الأمريكي".
نصر بلا دمار: حين تكون الأرض بعيدة عن اللهب
فيما كانت العواصم الأوروبية تحت الركام، والمجاعات تفتك بالمدنيين، كانت أمريكا تبني مصانعها، وتكدّس الذهب في خزائنها، وتعدّ عدتها لما بعد الحرب. لم تخض الحرب على أرضها، ولم تخسر شيئًا من بناها التحتية، بل كانت تستثمر في الحرب، وتبيع السلاح، وتراقب التآكل الأوروبي بصمت استراتيجي.
وعندما انتهت الحرب، لم تكن في حاجة لإعادة بناء نفسها… بل لبناء العالم على طريقتها.
أوروبا المُنتصِرة... لكنها المنهارة
بريطانيا خرجت من الحرب منهكة، مفلسة، مدينة لأمريكا، ولم تعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بل دولة تتسوّل القروض. فرنسا انتصرت سياسيًا، لكنها عسكريًا لم تسترد هيبتها، واضطرت للارتماء في الحضن الأمريكي. حتى ألمانيا الغربية، بعد تقسيم البلاد، أُعيد بناؤها وفق النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة.
وهكذا تشكّل مشهد غريب:
عالم قديم خرج من الحرب "منتصراً" فقط لأن واشنطن قررت أن تنقذه، لا لأنه انتصر حقًا.
مشروع مارشال: الاستثمار في التبعية
قدّمت أمريكا مليارات الدولارات لأوروبا الغربية لإعادة إعمارها، فيما عُرف بـ "مشروع مارشال". لكن هذه الأموال لم تكن عطايا، بل أدوات ربط وهيمنة اقتصادية. فكل من قبل المساعدات، قبل ضمنيًا الانضواء تحت راية واشنطن، والسير في فلكها السياسي والاقتصادي.
وقد ضمنت أمريكا من خلال هذا المشروع:
- خلق سوق استهلاكية لمنتجاتها.
- تطويق المد السوفييتي.
- تعميق التحالف السياسي مع الأنظمة الأوروبية.
- تحويل الدول الأوروبية إلى "شركاء صغار" لا ينازعون الزعامة.
الناتو: تحالف أمني... أم وصاية دائمة؟
تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 لم يكن فقط لمواجهة السوفييت، بل لتثبيت الهيمنة الأمريكية على القرار العسكري في أوروبا. منذ تلك اللحظة، لم تعد القارة العجوز تملك استقلالها الدفاعي، بل أصبحت تعتمد على المظلة الأمريكية في كل صراع.
حتى اليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود، ما زالت القواعد العسكرية الأمريكية في ألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وكأن الحرب لم تنتهِ.
من احتلال عسكري إلى احتلال ثقافي
لم تكن الهيمنة الأمريكية فقط بالدبابات والمعاهدات، بل كانت أدهى من ذلك: عبر تصدير نمط الحياة الأمريكي. تحوّل المواطن الأوروبي إلى مستهلك للثقافة الأمريكية:
- أفلام هوليوود غزت دور العرض.
- اللغة الإنجليزية ابتلعت اللغات الوطنية.
- الموضة، الأكل السريع، والموسيقى الأمريكية أصبحت رموزًا حداثية.
وهكذا، بينما كانت أوروبا تلعق جراحها، كانت تنسلخ بهدوء عن هويتها... وتتماهى مع الصورة التي رسمتها لها واشنطن.
هذا هو الحصاد: زعامة واحدة، وتبعية مغلّفة بالتحالف
لقد حصدت أمريكا ثمرة النصر كاملة، لا لأنها قاتلت وحدها، بل لأنها الوحيدة التي:
- لم تُهزم.
- لم تُقصف.
- لم تُدمّر.
- بل كانت هي من يموّل، ويُسلّح، ويخطط لما بعد النصر.
أما أوروبا "المنتصرة"؟ فقد خرجت من الحرب مدينةً، منهكة، تابعة، وتدريجيًا بلا سيادة حقيقية.
وهكذا كُتب النظام العالمي الحديث: بقلم أمريكي، وعلى رقعة أوروبية مُمزّقة.