العجوز وقطعة الحلوى: مكافأة الصمت أم رشوة النسيان؟

في زاوية معتمة من المشهد الكبير، جلس عجوزٌ على كرسي خشبي متهالك، يحدّق بصمتٍ في الأفق. لم يكن في الأفق شيء يُرى، فقط غبار الذكريات، وهدير الماضي. 
وفجأة، جاء من يُقدّم له قطعة حلوى
ابتسم، تناولها بيد مرتجفة، ثم ظل صامتًا. لم يسأل عن السبب. لم يتساءل إن كانت هذه الحلوى استحقاقًا، أم سخرية متأخرة. فقط ابتلعها، كما ابتلع من قبل أعوامًا من الصبر، والكتمان، والانتظار.
تاريخ طويل من الطاعة


كان العجوز ذات يوم شابًا، مملوءًا بالحماسة، بالأسئلة، وربما بالاحتجاج. لكنهم علّموه الصمت، ودرّبوه على الطاعة، وأقنعوه بأن الكبار يعرفون أكثر، وأن الغد سيكون أجمل. انتظر الغد، ثم الغد الذي يليه، ثم مرّ العمر، واكتشف أن ما وُعد به لم يأتِ. لكنه لم يصرخ، فقط ظلّ يقتنع أن التضحية وحدها هي البطولة.


حين يأتي الاعتراف متأخرًا

قطعة الحلوى التي وُضعت في يده لم تكن سوى "لفتة تقدير" كما وصفها من قدّمها. ولكن أي تقدير؟ وأي توقيت؟ لقد قُدّمت له بعد أن رحل رفاقه، وبعد أن تآكل جسده، وبعد أن صارت ذاكرته أخفّ من أن تثور. هل كانت تعويضًا عن وطن خُذل؟ عن زمن صُمّت فيه الأفواه؟ عن عمرٍ ضاع في طوابير الانتظار؟


رشوة ناعمة أم تعويض صادق؟

قد يقول قائل إن ما قُدم له هو عرفان بجميله. لكن الحقيقة أن المكافآت المتأخرة تُشبه الاعترافات التي لا تصدر إلا بعد زوال الخطر. ليست شجاعة، بل مكرٌ مغطى بالسكر. قطعة الحلوى هذه لا تُشبع جوعًا، ولا تُعيد ما ضاع، لكنها تكفي لإسكات عجوز واحد، كي لا يروي ما رآه.


ثقافة المكافأة بدلًا من ثقافة العدالة

في مجتمعات تُدار بالدعاية لا بالمساءلة، تتحوّل الحلوى إلى أداة حكم. تُوزّع لا بحسب الجدارة، بل بحسب الحاجة إلى التجميل. يُكرّم من سكت طويلًا، ويُمنح وسام من نسي ما يجب أن يُحاسِب عليه. تُصبح الرموز أهم من الحقوق، والصور أهم من الوقائع، والتقدير الشكلي بديلاً عن العدالة الحقيقية.


ابتسامة العجوز: رضا أم خذلان؟

حين ابتسم العجوز، لم يكن بالضرورة سعيدًا. ربما كانت تلك الابتسامة خيبة مغلفة بالصمت. ربما أدرك أن ما قُدّم له كان أقل بكثير مما يستحق، لكن لا وقت للحزن الآن. فقط ابتسم، كي لا يُقال إنه ناكرٌ للجميل، وابتلع الحلوى كما ابتلع من قبل عشرات الخيبات.


خاتمة: مذاق الحلوى في زمنٍ مرّ

"العجوز وقطعة الحلوى" ليست قصة فرد، بل حكاية أجيال صمتت طويلًا، ثم كُرّمت بشيء من السكر لتنسى ما لا يُنسى. إنها مرآة لعقلية تعطي التقدير حين يزول الخطر، وتوزع الامتنان حين تموت القدرة على السؤال. فهل نرضى بأن نكون ذلك العجوز؟ أم نكسر قالب الحلوى قبل أن يُوضع في أيدينا؟

أحدث أقدم
🏠