
من بين كل الأسئلة التي قد تتزاحم في الذهن، يبقى سؤال واحد يتسلّل بهدوء إلى عمق الوجود دون أن نجد له مدخلًا أو مخرجًا:
لماذا أنا هو أنا؟ ولماذا يبدو الآخرون... آخرين؟
إنه سؤال لا يتعلق بالاسم، ولا بالجسد، ولا بالذاكرة. بل يتعلق بالوعي ذاته: هذا الشعور الداخلي الذي أعيشه ولا يستطيع أحد غيري أن يختبره من الداخل. فكيف أكون "أنا"؟ ولماذا أوجد داخل هذا الكيان بالذات، لا سواه؟
الشعور المركزي بالذات: الوعي كأرض لا يُشاركك فيها أحد
منذ أن بدأ الإنسان يستفيق إلى وعيه، وهو يعيش تجربته من الداخل. يرى الأشياء، يسمع الأصوات، يشعر بالعالم... ولكن دائمًا من مكان واحد فقط: من مركز ذاته.
لا أحد غيرك يستطيع أن يرى العالم من عينيك، أو يسمع من داخلك، أو يشعر بشكك ودهشتك كما تشعر بها الآن.
وهنا تكمن المفارقة:
كلّ إنسان على وجه الأرض يظن أنه "أنا"، بينما الآخرون هم "هم".
وكل واحدٍ يعيش هذا المركز بذات اليقين، وبنفس الفرادة. فهل الوجود مجرد سلسلة من "ذوات" معزولة في جزر شعورية؟
الآخرون: مرايا خارجية أم ذوات قائمة؟
حين تنظر إلى شخص آخر، لا ترى إلا ملامحه، صوته، حركاته... لكن لا ترى "ذاته". لا تعلم كيف يشعر، ولا بمَ يُحسّ، ولا كيف يعيش كينونته الداخلية.
إنه يبدو لك شيئًا خارجك. ولكن بالنسبة له، هو الذات المركزية، وأنت الآخر.
هذا يدفع إلى السؤال:
هل الوعي مجرد وهم ذاتي؟
هل نحن جميعًا "نقطة شعور" أُسقطت في جسد ما، فتخيلت أنه "أنا"؟
لماذا أكون أنا في هذا الجسد بالذات؟
لم أختَر اسمي، ولا زماني، ولا والديّ، ولا المدينة التي وُلدت فيها، ولا الملامح التي أراها في المرآة.
ومع ذلك، أنا "أنا"، لا أستطيع الخروج من هذا الإطار، ولا أن أجرب أن أكون غيري.
هذا يفتح سؤالًا فلسفيًا لا يقل غرابة:
لو كنت في جسد شخص آخر، هل كنت سأظل "أنا"؟
أم أن الوعي متصل بهذا الجسد وهذه التجربة المحددة فقط؟
وهل هناك من اختارني لأكون هنا؟ أم أن الوعي مجرد صدفة؟
بين علم النفس والميتافيزيقا: من يصنع الشعور بالذات؟
علم النفس يُفسّر الشعور بالذات كعملية تطور عصبي ومعرفي: الطفل يبدأ بإدراك أن له جسدًا، ثم اسمًا، ثم ذاكرة، ثم حدودًا، فيتكوّن الإحساس بالـ"أنا".
لكن هذا لا يُجيب على السؤال الأصلي: لماذا أكون أنا، في هذا الجسد بالذات، بهذا الوعي، الآن؟
الميتافيزيقا، من جهتها، لا تقدّم جوابًا، بل تُبقي السؤال مفتوحًا. لأنها ترى أن هذا السؤال ذاته هو من علامات الوعي المتقدم، لا من عوارض الجهل.
سؤال لا يُجاب، بل يُحترم
ربما ليس الغرض من هذا السؤال أن يُجاب عليه.
ربما الغرض منه أن نبقى في حالة دهشة، أن لا نألف الوجود، ولا نُطمس تحت ركام العادة.
ربما يكون سرّ الإنسان الحقيقي أنه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يسأل:
"لماذا أكون أنا؟"
ويصمت، متأملًا، بإجلال.