البقر وحقيبة المدرسة: كيف يُربّى المواطن بين التجهيل والتدجين؟

في المشهد اليومي الذي يبدو مألوفًا حد البلادة، يُرى الطفل الصغير وهو يحمل حقيبته المدرسية كل صباح، يسير بخطى منتظمة نحو المؤسسة التعليمية، تمامًا كما تساق البقرة في الحقل، لا لتمتلك الأرض، بل لتُستثمر. ذلك الطفل لا يُعدّ لامتلاك المعرفة، بل لاجتياز الامتحان. لا يُدرّب على طرح الأسئلة، بل على حفظ الأجوبة الرسمية. وهنا تنشأ المقارنة المريرة: البقر يُربّى ليُنتج الحليب، والطفل يُربّى ليُنتج الطاعة.
فهل كانت المدرسة يومًا وسيلة لتحرير العقل؟ أم أنها إحدى أدوات النظام لإعادة إنتاج المواطن القابل للانقياد؟


ماذا نفعل في المدارس؟ تلقين أم تحرير؟

من حيث الشكل، يُفترض أن تكون المدرسة مؤسسة تنويرية تُنمّي التفكير النقدي وتؤسس لحرية العقل. لكن من حيث الوظيفة الواقعية، تُمارَس داخل جدرانها عملية منهجية لتشكيل الوعي الجمعي وفق قالب واحد، حيث تُدرّس المعرفة بوصفها "مسلّمات" لا بوصفها "أسئلة". يتم فيها تخريج أجيال تحفظ، لا تُحلل؛ وتُردّد، لا تُجادل.

فالطالب الذي يتجرأ على التشكيك في المعلومة، يُوصف بأنه "مشاغب". ومن يسأل سؤالًا خارج "نطاق المقرر" يُوبّخ، لا يُحفّز. وكأن المطلوب ليس فهم العالم، بل تقبّله كما هو، مهما كان مُشوَّهًا.


بين الحظيرة والقسم: لماذا يتخرج المواطن مطيعًا؟

تشابه مدهش بين الحظيرة التي تُربّى فيها البقر وفق جدول صارم، وبين القسم المدرسي الذي يُرَبّى فيه التلميذ وفق منهج صارم. في كليهما، المطلوب ليس الارتقاء بالكينونة، بل ضبط السلوك.

يتعلم الطفل منذ صغره أن النظام أهم من الفكرة، وأن الطاعة مقدّمة على الشك. يُدرّب على الوقوف في الطابور لا ليحترم النظام، بل ليعتاد التراتب. يُعاقب إن لم يحفظ، ولا يُكافأ إن اجتهد خارج "المنهج".

والنتيجة: مواطن لا يرى في النظام مؤسسة قابلة للنقد، بل سلطة واجبة التبجيل. تمامًا كما لا يخطر في بال البقرة أن تتساءل عن سبب وجود السور حولها.


الإعلام والتعليم: مصنع واحد بأقنعة متعددة

قد يبدو أن الإعلام والتعليم مؤسستان منفصلتان، لكن الحقيقة أن كليهما يشتركان في الوظيفة نفسها: إعادة إنتاج خطاب السلطة. المدرسة تبدأ المهمة، والإعلام يُكملها.

في المدرسة، يُعلَّم التلميذ "ما يجب أن يقال"، وفي الإعلام يُقنع بما "يجب أن يُصدَّق". وهكذا يُصنع المواطن الذي لا يميّز بين الرأي والخطاب، ولا بين الحقيقة والرواية الرسمية. لأن آلية التلقي نفسها واحدة: السكون، الطاعة، إعادة الترديد.


الطفل الذي حمل الحقيبة فحمل النظام معه

ذلك الطفل الصغير الذي خرج من بيته بحقيبة المدرسة، عاد بعد اثني عشر عامًا يحمل حقيبة أخرى، لكنها أخطر: حقيبة الذهن المغلق. لم يعد طفلاً، بل موظفًا مبرمجًا. صار يُمارس ما تعلّمه: يهاب السؤال، ويُدين المختلف، ويتقن لعبة الصمت.

إنه لم يُجهَّز لمواجهة الحياة، بل لمواجهة المعلّقين على منشوراته، إن تجرأ وفكر. لم يُهَيَّأ ليغيّر الواقع، بل ليُطَبِّع معه. والسبب؟ لأنه لم يُعلَّم كيف يفكك الواقع، بل كيف يبرره.


صناعة الطاعة: من الكتاب المدرسي إلى نشرة الأخبار

حين نُحلّل بعمق، نجد أن الكتاب المدرسي ليس سوى المقدمة الأولى لنشرة الأخبار. كلاهما يُقدّم رؤية أحادية للعالم، ويُحاصِر الطالب/المواطن بسياج المفاهيم الرسمية. القالب نفسه: عنوان جذّاب، سردية جاهزة، غياب للأسئلة، وتخويف من الانحراف عن "الخط".

ولهذا، حين يرى المواطن إعلامًا منحازًا، لا يستفزه الأمر؛ لأنه تعلّم منذ البداية أن "الانحياز جزء من الوطنية"، وأن "الرأي الآخر ترف"، وأن "المعارضة شبهة".


البقرة المقدسة: رمزية الطاعة العمياء في العقل الجمعي

في بعض الثقافات تُقدّس البقرة، لا لأنها تفكّر أو تخترع، بل لأنها "رمز الخضوع والتكرار". وهنا المفارقة: حين تصبح الطاعة قيمة عليا، يتحوّل الإنسان إلى بقرة مقدّسة، لا إلى عقل متحرر.

وفي ثقافتنا، تُقدّس الطاعة باسم "الانضباط"، ويُذمّ التفكير باسم "الشوشرة"، ويُكافأ من يكرّر بدل من يبتكر. لأن المؤسسة – سواء كانت تعليمية أو إعلامية – لا تريد عقلًا حرًا، بل عقلًا قابلًا للإدارة.


التعليم كأداة أمنية: حين تُعلَّب العقول بدل إطلاقها

لا تُدرّس المناهج هكذا عبثًا، بل بوعي كامل بوظيفتها. فكل دولة تختار ما تُدرّسه لأبنائها وفق ما يخدم "صورتها عن نفسها". ولهذا تُمحى الوقائع المزعجة من كتب التاريخ، وتُكرَّس الروايات التي تُمجّد النظام. ويُدرّس "حب الوطن" بوصفه حبًّا للسلطة، لا للناس.

بالتالي، يصبح التعليم أداة لضبط السكان، لا لتحريرهم. يصبح جدارًا ذهنيًا، لا نافذة. يصبح سجناً للأفكار، لا حقلًا للخيال.


من الطباشير إلى الخوف: كيف نُربّى على إسكات الأسئلة؟

الدرس الأول في المدرسة ليس "القراءة"، بل "السكوت". يُطلب من الطفل أن يرفع إصبعه ليستأذن بالكلام، وكأن الكلمة جريمة تحتاج إلى ترخيص. يُقال له أن الإجابة يجب أن تكون كما في الكتاب، لا كما في العقل. ويُربّى على أن الخروج عن النص خطأ، لا اجتهاد.

وهكذا، منذ الطفولة، يتعلّم أن الأسئلة ليست للبحث، بل للريبة. وأن الخوف ليس استثناء، بل قاعدة. فينمو العقل صغيرًا، وتكبر الرقابة داخله.


المنهج الرسمي: دروس في النسيان لا في الوعي

أخطر ما في التعليم الرسمي أنه يُلقّن التاريخ لا لفهمه، بل لنسيانه. يختار ما يُقال، ويُسكت ما يُحرج. فيُربّى التلميذ على رواية واحدة، فيكتشف لاحقًا أنه لا يعرف شيئًا إلا ما أراد له النظام أن يعرفه.

وبدل أن يتكوّن لديه وعي تاريخي نقدي، تتكوّن ذاكرة مشوّهة، لا تحميه من التكرار، بل تُهيئه لتقبّل المأساة مرة أخرى، لأنه لا يراها مأساة أصلًا.


خاتمة

البقرة لا تشتكي من الحظيرة، لأنها لا تتخيّل الحرية. وكذلك المواطن المُدجَّن، لا يثور على النظام، لأنه لا يتصور بديلًا. وحقيبة المدرسة ليست مجرد وسيلة تعليم، بل قد تكون أداة تعبئة. كل ما في الأمر: هل نُدرّس أبناءنا ليعرفوا أم ليخضعوا؟ ليبنوا أم ليكرّروا؟ ليحرثوا عقولهم أم ليُحلبوا كما تُحلب الأبقار؟

أحدث أقدم
🏠