
الحرية، في أصلها، هي قدرة الإنسان على اتخاذ موقف مستقل تجاه ما يُفرض عليه، سواء من السلطة أو من الجماعة أو من السوق. لكنها في الخطاب الدعائي تُختزل غالبًا في شعارات سطحية، يُعاد تدويرها لتناسب مصالح القوى المسيطرة. فتصبح "حرية التعبير" مبررًا لنشر الكراهية، أو "حرية السوق" غطاءً لنهب موارد الشعوب، أو "حرية الاختيار" وسيلة لإيهام الناس بأنهم يملكون القرار في أنظمة مغلقة سلفًا.
من المثير أن القوى الكبرى التي تروّج للحرية كقيمة عالمية، لا تتردد في دعم أنظمة قمعية إذا كانت مصالحها مضمونة، ولا تتوانى عن تدمير دول بأكملها باسم "تحريرها". فهل كان اجتياح العراق نموذجًا للتحرير؟ أم أن "الحرية" هنا لم تكن سوى غطاء لهيمنة جديدة؟ وهل كانت الفوضى التي تلتها جزءًا من ثمن التحرر، أم نتيجة طبيعية لتزييف المفاهيم؟
في السياق المحلي، كثيرًا ما تُستخدم "الحرية" كفزاعة داخلية، لتبرير القمع بحجة حماية المجتمع من الانفلات، أو لضرب الأصوات النقدية بحجة "الوحدة الوطنية". فتصبح الحرية تهديدًا لا حقًّا، وتُقدَّم للجمهور على أنها نقيض للاستقرار، وكأن الخيار الوحيد إما الطاعة أو الفوضى.
أما في الإعلام، فقد تحوّلت الحرية إلى سلعة استهلاكية. برامج "الرأي الحر" تُنتَج برعاية شركات كبرى، والمواقف السياسية تُختار وفقًا لما يضمن نسب المشاهدة، لا ما يضمن الحقيقة. فتُعطى مساحة للمعارضة حين تخدم التوازن المطلوب، وتُمنع حين تخرج عن الخط المرسوم. هكذا تصير "الحرية الإعلامية" شكلية، مُدارة، محسوبة، لا تعكس تنوّعًا حقيقيًا في الرؤى، بل تنوّعًا في الأدوار داخل لعبة واحدة.
ولعل أخطر ما في الأمر أن الأجيال الجديدة تُربّى على فهم زائف للحرية، فتراها مجرد قدرة على قول أي شيء، أو على اختيار أي منتج، أو على التمرد على أي سلطة، دون وعي بالسياقات أو بالبدائل. الحرية لا تعني الغياب عن المعنى، بل الحضور العميق فيه. إنها ليست ضد النظام، بل ضد القهر. وليست ضد القيم، بل ضد الفرض القسري لأي تصور واحد للحياة.
لهذا، فإن معركتنا اليوم ليست فقط مع من يمنع الحرية، بل مع من يزيّفها ويبيعها مغلّفة، تمامًا كما تُباع الأحلام في الأسواق. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف هذا المفهوم من الداخل، واستعادته من براثن الشعارات. فحرية بلا وعي هي استسلام مقنّع، وشعار بلا مضمون هو أداة تضليل، لا تحرر.