سطوة الصين على دور كوريا الجنوبية في التصنيع والتقنية والتسويق العالمي

لطالما شكلت كوريا الجنوبية نموذجًا صاعدًا في مضمار التقنية والتصنيع، خاصة منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما أعادت تشكيل اقتصادها الصناعي ليعتمد على الابتكار والتصدير. لكن في العقود الأخيرة، بدأت هيمنة الصين الاقتصادية والتكنولوجية تتسلل تدريجيًا، لا لتنافس كوريا الجنوبية فحسب، بل لتبتلع الكثير من الأدوار التي كانت تُعدّ حصرية لها في سلاسل الإنتاج والتسويق العالمية. هذه ليست مجرد منافسة بين جارين آسيويين؛ بل هي تحوّل جيواقتصادي يعيد رسم خارطة النفوذ التقني والصناعي في العالم، ويكشف كيف يمكن لدولة بحجم الصين أن تبتلع الهامش الذي كانت تتحرك فيه قوى متوسطة مثل كوريا الجنوبية، حتى دون أن تعلن الحرب على أحد.

من المصنع إلى العقل: رحلة الصعود الكوري

قبل أن تظهر الصين بوصفها قوة تصنيعية كاسحة، كانت كوريا الجنوبية هي "اليد الذكية" في آسيا. شركات مثل سامسونغ وإل جي وهيونداي تحولت من صانعي نسخ بدائية في بداياتها إلى رواد الابتكار في الإلكترونيات والسيارات. كانت كوريا تركز على تطوير القيمة المضافة، لا مجرد التصنيع الرخيص. ورغم افتقارها للموارد الطبيعية، نجحت في تصدير الذكاء التقني والإبداع الصناعي.

دخول التنين: الصين تزيح وتبتلع 

لكن مع بداية الألفية الثالثة، بدأت الصين تغير قواعد اللعبة. فبعد أن كانت مجرد "مصنع العالم" الذي يعتمد على تقنيات مستوردة وأيدٍ عاملة رخيصة، قررت أن تنتقل من الكم إلى الكيف. أطلقت بكين سلسلة خطط استراتيجية مثل "صنع في الصين 2025"، وبدأت تستثمر بكثافة في أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية، بل وحتى في مجالات كانت تعتبر معقلًا لكوريا مثل الشاشات والهواتف الذكية.

النتيجة؟ كثير من الشركات الكورية أصبحت تعتمد على الصين كمركز إنتاج، لكنها أصبحت أيضًا مهددة من الشركات الصينية الصاعدة مثل هواوي، شاومي، BYD، وغيرها، التي باتت تزاحم الكوريين في الأسواق ذاتها وبأسعار تنافسية.

التسويق العالمي: من "ك-بوب" إلى "تِك-توك"

حتى في المجال الثقافي، الذي كانت كوريا تتصدره عبر موجة الـK-pop والدراما الكورية، بدأت الصين تناور لتأخذ حيّزًا إعلاميًا أكبر. صحيح أن بيجين لم تصل بعد إلى القوة الناعمة الكورية في التأثير الثقافي، لكن أدواتها الرقمية، مثل تطبيق تيك توك، أصبحت تُستخدم في تسويق المحتوى الصيني عالميًا، بل باتت تتحكم في المنصات التي كانت تروّج للثقافة الكورية نفسها.

تكنولوجيا الحاضر.. ومعركة أشباه الموصلات

الضربة الكبرى التي تواجه كوريا الجنوبية اليوم تتعلق بـأشباه الموصلات، العمود الفقري لأي اقتصاد تقني. فبينما كانت سامسونغ وSK Hynix تتصدران هذا القطاع، جاءت الصين بخطط طموحة لاستنساخ التقنية وتجاوزها. وبرغم القيود الأمريكية على تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين، فإن بكين تبتكر طرقًا للالتفاف على ذلك، إما عبر الإنتاج المحلي، أو عبر شراء الشركات الأوروبية، أو عبر التجسس الصناعي والتقني.

التبعية الاقتصادية.. سلاح صيني جديد

أحد أشكال السطوة الصينية يتمثل في تحويل المنافس إلى تابع اقتصادي. فالكثير من الشركات الكورية أصبحت تعتمد على السوق الصينية كمستهلك رئيسي. وهذا يمنح الصين قدرة خفية على التأثير في قرارات تلك الشركات وحتى في سياسات الحكومة الكورية، تحت ضغط السوق. حين قررت كوريا الجنوبية نشر منظومة "THAAD" الأمريكية المضادة للصواريخ، شنت الصين حملة اقتصادية غير معلنة ضد الشركات الكورية، وأدت تلك الضغوط لتراجع كبير في النفوذ الكوري داخل السوق الصينية.

ماذا بعد؟.. حافة الهاوية أم فرصة جديدة؟

الصراع الصيني-الكوري لا يجري على شكل صدام مباشر، بل يأخذ شكل "البلع الناعم". ومع تزايد حجم الصين وسرعة تحولها من قوة تصنيعية إلى قوة ابتكارية، تواجه كوريا الجنوبية تحديًا وجوديًا: هل تعيد صياغة موقعها في العالم، أم ترضى بأن تكون ذيلًا لتنين لا يكفّ عن النمو؟

الإجابة لا تتعلق فقط بالتقنية والاقتصاد، بل بصياغة استراتيجية جديدة للهوية الوطنية، بحيث لا تُختزل في مجرد منتجات لامعة، بل في رؤية تتجاوز حدود السوق إلى قيم الاستقلال والسيادة التكنولوجية.

أحدث أقدم
🏠