من بضاعة إلى قدوة: كيف تسللت الثقافة الاستهلاكية إلى وجداننا عبر النماذج البشرية؟

في زمن لم تعد تُباع فيه السلع فقط، بل يُباع معها المعنى، أصبح الإنسان نفسه - شكله، صوته، أسلوب حياته - جزءًا من العرض. لقد تسرّبت الثقافة الاستهلاكية إلى أعماق الوجدان الجمعي ليس فقط عبر الإعلانات والمنتجات، بل عبر النماذج البشرية التي تحوّلت إلى رموز جاهزة للاستهلاك، يُروَّج لها كما تُروَّج زجاجة عطر أو هاتف جديد.
إن التحوّل من “قدوة” إلى “بضاعة” هو أحد أخطر التحولات الرمزية التي حدثت في العصر الحديث دون أن ننتبه، وهو تحوّل أعاد تعريف من نقتدي به ولماذا.


تسليع الإنسان: حين يصبح النموذج شخصية “قابلة للبيع”

لم يعد “المُلهم” في زمننا هو صاحب المبدأ أو الموقف، بل صاحب المظهر، وصاحب عدد المتابعين، وصاحب “أسلوب الحياة الجذّاب”. لقد غُلفت النماذج البشرية بقوالب تسويقية تجعلها قابلة للتداول والتكرار، كأنهم ماركات مسجّلة.
بل كثير من “القدوات” الجدد لا يقدمون شيئًا سوى صورهم، ومع ذلك يُحتفى بهم، ويُمنحون سلطة رمزية تؤثر في عادات الملايين واختياراتهم.

هذه السلطة الجديدة لا تقوم على الحكمة ولا الخبرة ولا القيمة المعرفية، بل على قوة الظهور وقابلية التسويق، أي أن المعيار لم يعد “ما الذي تحمله من فكر؟” بل “ما مدى قابليتك للعرض؟”.


الإعلام كوسيط تسويقي للقيم الجديدة

لعب الإعلام — قديمه وحديثه — دور الوسيط بين الثقافة الاستهلاكية وبين الوعي الجمعي. فحين يُعرض نموذج بشري يوميًا على الشاشات أو المنصات، في مشاهد محسوبة بعناية، فإن العقل الباطن للجمهور يبدأ في تقبّله كمعيار ضمني للجاذبية، والنجاح، وحتى القيم.
ولأن الإعلام لا يعرض إلا من يضمن له التفاعل أو الربح، فقد أصبح من يملك أدوات “الجذب البصري أو العاطفي” هو الأوفر حظًا في أن يتحوّل إلى رمز، ولو كان خواءً من أي مضمون.

بعبارة أخرى: القدوة في الثقافة الاستهلاكية لا تُصنع، بل تُسوّق.


من النموذج الأخلاقي إلى النموذج التسويقي

في الوعي الإسلامي والتقليدي عمومًا، كانت القدوة تُبنى على المعنى: الحكمة، الزهد، الشجاعة، الصبر، أو التفاني. أما اليوم، فهي تُبنى على الصورة: المظهر، السكن، النبرة، وعدد المعجبين.

لقد أُزيحت النماذج التي تتحدّى السوق — من مفكرين ومصلحين وعلماء ومربّين — لصالح نماذج “قابلة للترويج” تنسجم مع السوق وتخدمه.

والمفارقة أن هذه النماذج الجديدة، بعد أن تُباع وتُشهر وتُستهلك، تُقدَّم إلينا على أنها “ملهمة”، بينما هي في جوهرها لا تلهمك لتكون أفضل، بل تثير فيك مشاعر النقص كي تشتري وتُقلد وتستهلك لتشبهها.


آثار خفية: تشوّه القيم وتكريس الفراغ

حين تتحوّل النماذج البشرية إلى بضاعة، فإن أثرها لا يتوقف عند تقليد المظهر، بل يمتد إلى تشويه القيمة نفسها. فتصبح “الحرية” مرادفًا للخروج عن المألوف الشكلي، وتُصبح “النجاح” مرهونًا بعدد المتابعين، ويُصبح “التميز” مرادفًا للغرابة.

وهكذا تتبدّل القيم من داخلها، لا من خلال مواجهة فكرية، بل من خلال قوة التكرار والإعجاب الجماعي.


ما العمل؟ استعادة المعنى قبل الاقتداء

نحتاج إلى استعادة سؤال بسيط ولكنه جوهري:
لماذا نُعجب بهذا الشخص؟
هل لأنه يمتلك معنى حقيقيًا؟ أم لأنه صُنع بعناية كي يجذبنا ويؤثر في خياراتنا الاستهلاكية؟

الوعي بهذه الآلية — آلية التسليع — هو الخطوة الأولى لتحرير مفهوم القدوة من قبضة السوق. فليس كل من يُعرض علينا كنموذج يستحق أن يكون قدوة، وليس كل من غاب عن الضوء عديم الأثر.

القدوة الحقيقية قد تكون في الجوار، أو في كتاب، أو في تاريخٍ صامت، لا في مقطع قصير مصمَّم بعناية لاقتناص إعجابك.

أحدث أقدم
🏠