في ساحة من ساحات الذاكرة، نُصِب تمثال برونزي لامرأة تنظر للبعيد، يداها مكبلتان، وعيناها تلمعان بدهشة الغريب، وحولها لوحة صغيرة تقول: "تكريمًا للشعوب الأولى، أصحاب الأرض الأوائل".
يضع الزوّار الزهور، يلتقطون الصور، ويغادرون.
لكن أحدًا لا يسأل: لماذا كُبّلت يداها؟ ومن كبّلهما؟
هكذا بدا المشهد في أستراليا، حين بدأت الدولة "الحديثة" تعترف – على استحياء – بمن كانوا هنا قبل أن يُرسم علمها أو تُخطّ حدودها.
اعترفوا بـ"السكان الأصليين"، لكن الاعتراف جاء بلهجة موظف دبلوماسي لا بصرخة ضمير.
كأنما يُقال لهم: "نعتذر لأننا مررنا من فوقكم، لا لأننا سحقناكم." من المسروق؟ ومن السارق؟
الاعتراف، حين لا يُصحَب بردّ الحق، يصبح كمن يعيد رسم الجريمة على الجدار دون أن يعيد المسروقات إلى أصحابها.
هل يحق للمُستعمر أن يعترف بـ"مأساة السكان الأصليين" دون أن يعترف أنه هو المأساة؟
هل يمكن الاعتذار عن "المعاناة" دون تسمية الجاني؟
هل يكفي أن نمنحهم نشيدًا قوميًا ملوّنًا دون أن نرد لهم الأرض التي لم تُشترَ ولم يُعقد بشأنها عقد واحد؟
اعتراف أم تخدير؟
ما يُسمى بـ"الاعتراف الرمزي" غالبًا ما يُستخدم كأداة سياسية لتسكين الجراح لا لمداواتها.
يرفع الساسة أعلام الشعوب الأصلية، يضيفون سطرًا في المناهج عن "حضارتهم الغنية"، وربما يُعلن يوم للاعتراف السنوي.
لكن الجرح لا يُغلق بالمراسم.
ففي ذات اللحظة التي يُحتفى فيها بالثقافة الأصلية، تُرفض محاولاتهم للحصول على تمثيل دستوري حقيقي، وتُهمّش قضاياهم في الصحة والتعليم والسكن، وتُعامل لغاتهم كأنها لهجات منقرضة لا تستحق البعث.
التاريخ كلوحة بيضاء يُعاد طلاؤها
الاعتراف الحقيقي يعني إعادة كتابة الرواية، لا تعليق فصل في متحف.
يعني أن نُقر بأن ما يُسمى بـ"الاستيطان" كان احتلالًا.
أن نعيد تعريف "البداية الوطنية" لا كبداية ازدهار، بل كنهاية عالم كان قائمًا وأُبيد.
لكن هذا يخيف النظام، لأنه يفتح أبوابًا لا يريد أحد فتحها:
- التعويضات.
- إعادة الأراضي.
- التفكيك الرمزي للهوية البيضاء الأسترالية.
التمثال لا يحرّر، والاعتذار لا يُحرج
يريد النظام أن يبني تمثالًا للضحية، لكن بشرط أن تبقى الضحية صامتة، ممتنة، لا تطالب، لا تُربك السردية الرسمية.
يريدها رمزًا للزينة لا شاهدًا على الجريمة.
فأي اعتراف هذا الذي يُمنح من دون مساءلة؟
وأي مصالحة لا تبدأ بالعدالة بل تنتهي عند الندم الخطابي؟
الذاكرة لا تُشترى بالهدايا
الاعتراف بدون إعادة الاعتبار الفعلي هو صورة على جدار بلا ظل.
هو أن تقول للمقتول: "نأسف لأنك مُت" دون أن تسأل القاتل: "لماذا قتلته؟".
هو أن تعتذر من التاريخ بينما تواصل تكريسه.
من سيُسقط التمثال؟
العدالة لا تُصنع في البرلمان فقط، بل تُولد حين يرفض المقموع أن يكون مجرد رمز، ويطالب بأن يكون طرفًا في الرواية، لا هامشًا في خطاب الاعتذار.
ربما سيأتي يوم يُسقط فيه أحفاد الشعوب الأصلية ذلك التمثال البرونزي، لا لأنهم يرفضون الاعتراف، بل لأنهم يريدونه كاملًا، واضحًا، شجاعًا، حقيقيًا... لا تذكارًا في ساحة عامة.