
حين كانت مدننا تُعلّم أوروبا معنى الجمال
قبل أن تلمع باريس، كانت قرطبة تُنير أوروبا.
قبل أن تُرصف شوارع فيينا، كانت أزقة بغداد تُعبّد بالمعرفة والفن.
في الأندلس، لم تكن المدينة الإسلامية مجرد مسكن، بل قصيدة.
في غرناطة، كانت البيوت تهمس بالفن، والنوافير تروي الفلسفة، والجدران تتنفس آياتٍ منقوشة بالزخرف.
وفي دمشق، والقيروان، وسمرقند، كانت العواصم تُبنى بعينٍ ترى الجَمال عبادة.
ذاك هو الفرق الجوهري: لم يكن الجَمال في حضارتنا ترفًا، بل جزءًا من الإيمان.
كان تنظيم المدينة انعكاسًا لنظام الروح والعقل، لا مجرد هندسة إسمنتية.
حين يُصمّم الغني للفقراء...
الدول الفقيرة لم تبنِ مدنها كما تبني الأمم الحرة، بل كما يُشيّد "المركز" أطرافه.
المستعمر رحل، لكنه ترك وراءه بنية تحتية للعجز.
فأبنية الإدارة نُسخت عن بيروقراطية أجنبية، والجامعات عن مناهج مستوردة، والمدن عن طراز لا يُشبه روح المكان.
ثم جاء "الوطني" ليكمل المسيرة:
يرصف الشوارع بالكلام، ويبني المستشفيات بتقارير، ويزرع الإسمنت في كل مكان إلا في العقل.
المدينة كمرآة للفكرة
في النهاية، المدينة هي مرآة للإنسان الذي يسكنها.
لا يوجد عمران مزدهر في مجتمع مأزوم، ولا جَمال خارجي في أمة تكره ذاتها.
فحين يفقد الإنسان ثقته بنفسه، يختار القبح دون أن يدري.
حين يفقد مشروعه الحضاري، يبني الحائط ثم ينسى أن يضع نافذة.
وهكذا نعيش في مدن نوافذها لا تطل على شيء.
لا تطل على رؤية، ولا على مستقبل، ولا حتى على الماضي.
ليست أوروبا هي النموذج... ولكن
ليست المشكلة أن أوروبا جميلة، بل أن مدننا لا تحاول حتى أن تكون جديرة بالحياة.
ليست العبرة في الأرصفة أو الأضواء، بل في الإحساس بأننا نستحق الأفضل.
لا نحتاج نُسخًا من باريس، ولا واجهات مثل فيينا.
نحتاج فقط أن نؤمن أن من حقنا أن تطل نوافذنا على الأمل، لا على الإسمنت العشوائي.