المغرب الكبير: كيف مزّق الاستعمار جسدًا واحدًا إلى أربع دول؟

رغم وحدة الأرض واللسان والدين، يقف المغرب الكبير اليوم مجزّأ إلى كيانات سياسية متنافرة، تباعدت بينها الحدود أكثر مما قربتها الذاكرة المشتركة. 
لم يكن هذا التشظي نتيجة نزعة داخلية، بل ثمرة مشروع استعماري طويل الأمد، أعاد رسم الجغرافيا على مقاس الهيمنة لا على وقع التاريخ. 

فما الذي جعل من أمة واحدة أربع دول؟ وكيف تمكّن الاستعمار من تحويل نسيج حضاري موحَّد إلى خرائط منفصلة؟ وأربع دول مقمسمة؟...
تقسيم "دول المغرب العربي" إلى كيانات سياسية مستقلة (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا) لم يكن ناتجًا عن تطور طبيعي للوحدة السياسية، بل جاء نتاجًا مباشرًا لمشاريع استعمارية ممنهجة هدفت إلى تفتيت وحدة الكيان المغاربي التاريخي والجغرافي، وزرع كيانات مصطنعة يسهل التحكم فيها. ولتوضيح ذلك، نعرض أبعاد هذا التقسيم من خلال ثلاث محاور:


أولًا: الخلفية التاريخية لوحدة المغرب الكبير

قبل التقسيم الاستعماري، كان "المغرب الكبير" يمثل كيانًا جغرافيًا وثقافيًا واحدًا يمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى تخوم مصر شرقًا، تحت تأثير حضاري موحد تقوم دعائمه على:

  • اللغة والدين: لغة عربية وهوية إسلامية جامعة.
  • التاريخ السياسي المشترك: حيث كانت المنطقة تخضع غالبًا لسلاطين أو دول كبرى ذات نفوذ متشابك، مثل دولة الموحدين، والمرابطين، ثم لاحقًا الحكم العثماني في الجزائر وتونس وليبيا، بينما حافظ المغرب الأقصى على استقلال نسبي.
  • الروابط القبلية والتجارية: شبكة من العلاقات المتبادلة بين الحواضر والبوادي، ومسارات الحج والتجارة الصحراوية، ومراكز العلم كالزيتونة والقرويين.

لم تكن الحدود كما نعرفها اليوم موجودة؛ فالأرض كانت واحدة، وإن اختلفت مراكز القوى.


ثانيًا: كيف تم التقسيم؟ (المرحلة الاستعمارية)

1. فرنسا: مهندس التقسيم الرئيسي

  • الجزائر (1830): أول بلد تم غزوه واعتباره جزءًا من فرنسا ذاتها، عبر عملية استيطانية طويلة المدى.
  • تونس (1881): فرضت عليها فرنسا نظام الحماية عبر اتفاقية "قصر سعيد".
  • المغرب (1912): تم تقسيمه إلى مناطق نفوذ فرنسية وإسبانية، مع احتفاظ السلطان المغربي ببعض السلطات الشكلية.
  • ليبيا (1911): وقعت تحت الاحتلال الإيطالي، الذي استمر حتى هزيمته في الحرب العالمية الثانية، ثم تقاسمت بريطانيا وفرنسا السيطرة عليها قبل استقلالها عام 1951.

وبهذا، رسم الاستعمار حدودًا مصطنعة بين كيانات كانت قبل ذلك جزءًا من نسيج حضاري واحد.

2. الحدود كأداة للفرقة

الحدود التي رسمها الاستعمار لم تُراعِ الامتدادات القبلية ولا الجغرافية الطبيعية، بل فُرضت وفق اعتبارات سياسية بحتة، مما أوجد مشكلات مزمنة حتى بعد الاستقلال، مثل:

  • النزاعات الحدودية بين الجزائر والمغرب (قضية الصحراء الغربية).
  • غموض الحدود الليبية الجزائرية في بعض الفترات.
  • تغييب فكرة الاتحاد المغاربي الواقعي رغم تشكله نظريًا لاحقًا.

ثالثًا: التداعيات التاريخية للتقسيم

1. تجزيء الوعي الجمعي

تم تكريس الهويات القطرية الضيقة عبر المناهج التعليمية، والإعلام الرسمي، والنشيد الوطني، حتى أصبحت الأجيال الجديدة تنتمي للوطن القطري أكثر من انتمائها للكيان المغاربي الجامع.

2. تثبيت التبعية السياسية

أدى التقسيم إلى بروز أنظمة سياسية ذات شرعيات محلية هشّة، تعتمد على الدعم الخارجي لضمان بقائها، مما رسّخ التبعية للغرب بدل بناء مشروع نهضوي ذاتي موحد.

3. إفشال مشاريع الوحدة

رغم قيام "اتحاد المغرب العربي" سنة 1989، إلا أن المشروع بقي حبرًا على ورق بسبب:

  • الخلافات الحدودية.
  • تضارب المصالح السياسية بين الأنظمة.
  • التدخلات الغربية التي رأت في وحدة المغرب الكبير خطرًا استراتيجيًا.

4. تقزيم الدور المغاربي

في خريطة العالم العربي والإسلامي، أصبح لكل دولة مغاربية ثقلها المحدود، ولم تعد المنطقة تُحسب كقوة موحدة، مما جعلها ضعيفة التأثير في القضايا الكبرى كفلسطين أو إفريقيا.


خلاصة تحليلية

تقسيم دول المغرب الكبير لم يكن قدرًا جغرافيًا، بل مشروعًا استعماريًا هدفه تقطيع أوصال المنطقة وتدمير قدرتها على النهوض كوحدة حضارية. هذا التقسيم ما زال يلقي بظلاله اليوم على ملفات السيادة، والهوية، والاقتصاد، والسياسة، وهو ما يوجب التفكير من جديد في مشروع مغاربي يخرج من جغرافيا التجزئة إلى أفق التكامل الحضاري.

أحدث أقدم
🏠