
حين انفصل جنوب السودان عام 2011، بدا المشهد في الإعلام كأنه ولادة منتظرة لحلم تحرّر شعب مضطهد. ارتفعت الرايات، وتحدث الزعماء عن العدالة، ورحّب الغرب بقيام "أصغر دولة في إفريقيا" كإنجاز ديمقراطي.
لكن ما إن أسدل الستار على المشهد الاحتفالي، حتى انكشفت المأساة الحقيقية: شعبٌ أُخرج من وطنه القديم باسم الحرية، ليُسلَّم إلى الجوع، والاقتتال، والانهيار.
دولة تولد على حدود النار
بعد أكثر من عشرين عامًا من الحرب، استُولد جنوب السودان في حضن السلاح. لم يكن هناك اقتصاد قائم، ولا مؤسسات فعالة، ولا نسيج اجتماعي متماسك.
منذ الأيام الأولى، دخلت الدولة الوليدة في صراعات دموية بين مراكز القوى داخل الحركة الشعبية، ثم بين قبائل النوير والدينكا، وبين جيش النظام وميليشيات منشقة.
ومع غياب البنية التحتية، وافتقار الإدارة، وانتشار الفساد، تحوّل الجنوب إلى ساحة صراع مفتوحة لكل من يملك السلاح أو التمويل أو الطموح السياسي.
من التحرر إلى التدويل
لم تمضِ سنوات قليلة حتى أصبحت جوبا عاصمة تحت وصاية دولية غير معلنة.
قوات الأمم المتحدة تنتشر في الشوارع.
المعونات الإنسانية هي المصدر الأول للغذاء.
النفط يُصدّر لكن لا يصل إلى الناس.
والمفاوضات حول مستقبل البلاد تجري في العواصم الأجنبية لا في الداخل.
هكذا انتقل الجنوب من الهيمنة الخرطومية إلى الرعاية الدولية، لا بوصفه كيانًا مستقلًا، بل كـ"دولة فاشلة" تحتاج إلى من يُعيد تأهيلها… أو إعادة تشكيلها.
أين اختفى الحلم؟
الجنوب الذي قيل له: "استقلّ تُصبح حرًّا"، وجد نفسه أضعف من أن يحكم نفسه، وأبعد ما يكون عن الحرية.
المشاكل التي استُخدمت كمبرر للانفصال (التمييز، التهميش، المركزية في السلطة) بقيت، بل تفاقمت.
بل إن بعض الجنوبيين باتوا يتحسّرون على زمن الشمال، لا حبًّا في المركز، بل رفضًا لهذا الفشل الذريع.
جون قرنق: الحالم الذي استخدمه الآخرون… ثم قتلوه
في قلب قصة الانفصال، يقف اسم جون قرنق بوصفه اللاعب المركزي الذي لا يمكن تجاوزه.
لكن قرنق لم يكن انفصاليًا حين بدأ التمرد في 1983، بل كان يحمل مشروعًا نظريًا اسمه "السودان الجديد"، يسعى لتأسيس دولة علمانية ديمقراطية يتساوى فيها الجميع.
غير أن الواقع كان أقسى من أحلام الكتب.
دعم الغرب لم يكن نزيهًا
الذين دعموا قرنق – سياسيًا وعسكريًا – لم يفعلوا ذلك لأنهم اقتنعوا بعدالة مشروعه، بل لأنهم أرادوا إضعاف السودان وتقسيمه.
ومع مرور الوقت، بدأت الحركة الشعبية تتغير من حركة إصلاح إلى مشروع انفصال.
قرنق… هل بدأ يراجع نفسه؟
في السنوات الأخيرة من الحرب، وبعد توقيع اتفاق نيفاشا عام 2005، بدأ قرنق يعود تدريجيًا من خطاب الانفصال إلى خطاب الوحدة المشروطة.
وقَبِل منصب نائب أول لرئيس الجمهورية، في محاولة لبناء شراكة جديدة.
لكنه لم يُتح له أن يستكمل هذه المراجعة.
فبعد ثلاثة أسابيع فقط من تولّيه المنصب، لقي مصرعه في حادث مروحية غامض، لم تُحسم أسبابه حتى اليوم.
هل اغتيل لأنه قرر الخروج عن النص؟
الاحتمال الأقوى، أن قرنق اغتيل حين بدأ يُفكر خارج المسار المرسوم له.
فهو لم يعُد يخدم أجندة الانفصال بوضوح، بل بدأ يُعيد التفكير في إمكانية الوحدة.
ومثل كل من يغير موقعه من لعبة الكبار، يصبح خطرًا لا بد من إسكاته.
الانفصال: من الخديعة إلى الكارثة
كان الانفصال وعدًا بالتحرر، لكنه لم يُنتج إلا مزيدًا من العبودية بأشكال جديدة:
عبودية للفقر، للفساد، للتدخل الدولي، وللانقسام القبلي.
والذين هللوا له بوصفه "نصرًا ديمقراطيًا"، لم يعودوا يهتمون اليوم بمصير الجنوب، لأن هدفهم تحقق: تقسيم السودان، لا تحريره.
الخلاصة: حين تُصنع الكارثة باسم الحق
انفصال الجنوب لم يكن حتمية تاريخية، بل خديعة سياسية شارك فيها لاعبون كُثر، منهم من كان حسن النية، ومنهم من كان أداة في يد الغير.
وجون قرنق – الذي خاض الحرب باسم السودان الجديد – مات على أعتاب فهمٍ متأخر:
أن من دعموا نضاله، لم يدعموه ليُصلح، بل ليُقسّم.