
من مارشال إلى الناتو: جذور الطاعة الأوروبية
بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت أوروبا مدمّرة اقتصاديًا ونفسيًا، بينما خرجت أمريكا قوة عالمية لا تُضاهى. ووسط هذا الخراب، قدّمت واشنطن ما عُرف بـ "مشروع مارشال"، الذي ضخ مليارات الدولارات لإعادة إعمار أوروبا الغربية.
لكن ذلك الدعم لم يكن بلا مقابل. فقد ربطت أمريكا هذا التمويل بشروط سياسية وعسكرية وثقافية:
- تماهي أوروبي مع الخط الأمريكي في الحرب الباردة.
- انضمام قسري إلى حلف الناتو بقيادة أمريكية.
- تبنّي سياسات اقتصادية ليبرالية تتماشى مع الرأسمالية الأمريكية.
ومنذ ذلك الحين، نشأت علاقة غير متكافئة بين أوروبا وواشنطن: أمريكا تموّل وتحمي، وأوروبا تلتزم وتتماهى.
التبعية الثقافية: استعمار ناعم للعقل والذوق
لم يكن مشروع مارشال اقتصاديًا فقط. فقد تزامن معه اجتياح ثقافي منظم، رسّخ الهيمنة الأمريكية على الوعي الأوروبي:
- ساد النمط الاستهلاكي الأمريكي: السيارات، الوجبات السريعة، الموضة، طريقة الحياة.
- هيمنت هوليوود على الذوق العام، وزرعت صورة أمريكا بوصفها "منقذ العالم".
- تشكّلت طبقة من النُخب الأوروبية المُعجبة بالنموذج الأمريكي، فتخلّت عن مشروع "النهضة الذاتية" مقابل الارتماء في أحضان القوة الصاعدة.
وهكذا تحوّلت التبعية إلى ما يشبه التطبيع العقلي، حيث باتت أمريكا ليست فقط شريكًا، بل مرجعًا ثقافيًا وأخلاقيًا وسياسيًا.
بين الطاعة والضيق: مظاهر التململ الأوروبي
ليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها الفجوة بين واشنطن والعواصم الأوروبية، لكنها تتخذ اليوم أشكالًا أوضح، وفي ملفات أكثر حساسية:
1. حرب أوكرانيا: أوروبا تنزف وأمريكا تربح
حين اندلعت الحرب، اصطفّت أوروبا خلف واشنطن دون تردّد، لكنها لم تكن المستفيد. بالعكس، تحمّلت:
- أزمة طاقة خانقة.
- تضخم اقتصادي.
- استنزاف مالي لدعم كييف.
في المقابل، ربحت أمريكا:
- سوقًا جديدًا للغاز.
- عقود سلاح متزايدة.
- قيادة غير قابلة للمساءلة داخل الناتو.
وهكذا بدأ السؤال يتردد داخل النخب الأوروبية: لماذا ندفع فواتير قرارات لا نصنعها؟
2. غزة: حين تصبح الأخلاق عبئًا على السياسة
في العدوان الإسرائيلي على غزة، وقفت أمريكا منحازة بلا مواربة، مدافعة عن كل ما تفعله تل أبيب، حتى حين تقصف المخيمات والمدارس والمستشفيات. لكن في أوروبا، الموقف أكثر ارتباكًا.
- الشارع الأوروبي يغلي تضامنًا مع الفلسطينيين.
- الجامعات تشهد مقاطعات واعتصامات غير مسبوقة.
- الحكومات تواجه إحراجًا أخلاقيًا متصاعدًا.
وبينما واشنطن ماضية في تمويل الحرب، تجد الحكومات الأوروبية نفسها أمام تناقض فج: حماية العلاقة مع إسرائيل من جهة، واحتواء غضب شعوبها من جهة أخرى.
3. الصين وأفريقيا: مصالح أوروبا تتصادم مع أولويات أمريكا
أمريكا تدفع باتجاه تصعيد مع الصين، وفرض عزلة استراتيجية حولها. لكن أوروبا:
- تحتاج التعاون الاقتصادي مع بكين.
- لا تريد خسارة الأسواق الآسيوية.
- تبحث عن بدائل للنفوذ الأمريكي في أفريقيا.
فرنسا، مثلًا، بدأت تُراجع علاقتها مع مستعمراتها السابقة بعدما انكشفت هشاشة حضورها هناك، خصوصًا في ظل الصعود الروسي والتركي والصيني.
قوة بلا إرادة: لماذا لا تتحرر أوروبا؟
ورغم تزايد المؤشرات على هذا التململ الأوروبي، إلا أن القطيعة مع واشنطن لم تحدث، ولن تحدث بسهولة. لماذا؟
لأن الناتو = أمريكا
الاتحاد الأوروبي لا يملك مظلة دفاعية مستقلة، بل يعتمد كليًا على الناتو، الذي تتحكم فيه واشنطن. فكل دعوات ماكرون لبناء "جيش أوروبي مستقل" بقيت في خانة الطموحات، دون إرادة تنفيذ حقيقية.
لأن الإعلام الأوروبي لا يزال أمريكي الهوى
الرواية الإعلامية، وإن بدت محلية، لا تخرج عن الإطار الأمريكي. تغطية الصراعات، وتوصيف الخصوم، وتحديد من هو "العدو" و"الصديق" — كلها تُبنى في واشنطن ثم تُنسَخ في العواصم الأوروبية.
لأن أوروبا منقسمة داخليًا
- بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي، واقتربت أكثر من أمريكا.
- ألمانيا تترنّح بعد رحيل ميركل، وتخشى أي خطوات سياسية منفردة.
- فرنسا تغرد نظريًا خارج السرب، لكنها في الواقع مقيدة عسكريًا واقتصاديًا.
الشعوب تسبق الحكومات
اللافت أن الوعي الشعبي الأوروبي بدأ يسبق النُخَب. المظاهرات المناهضة للحرب على غزة، والمقاطعات الطلابية، والضغوط البرلمانية المتزايدة، كلها تشير إلى تحوّل حقيقي في وجدان الشارع. لكن هذا التحوّل لم يجد بعد من يترجمه إلى سياسة مستقلة وشجاعة.
خلاصة: الغرب لم يعد موحّدًا... لكنه لم ينقسم بعد
ما نراه اليوم هو تصدّع داخلي في بنية التحالف الغربي، لا يزال في مراحله الأولى، لكنه يُظهر أن التبعية السياسية لم تعد مريحة كما كانت. أوروبا بدأت تفتح أعينها على ثمن التحالف، لكنها لا تملك بعد الأدوات ولا الشجاعة للخروج من بيت الطاعة الأمريكي.
ربما يكون السؤال الأهم في السنوات القادمة:
هل ستبقى أوروبا تابعة، أم أن التململ الحالي هو بداية استيقاظ جيوسياسي متأخر؟